لحظة ضعف

أخذت تتصفح مجلة كانت قد أجلت قراءتها منذ الصباح حتى يحين موعد جلستها
تحت أغصان الشجرة الكبيرة التيّ اعتادت الجلوس تحتها منذ سنوات ،احتست رشفة من فنجان قهوتها وتابعت قراءتها ،جاءها صوت مألوف لكنها لم تسمعه منذ مدة ،قطع عليها صمتها قائلا: شعرت بأنك ستكونين هنا فلم أكلف نفسي عناء البحث عنك… أخذ نفساً عميقاً ثم جلس في الكرسي المقابل وواصل التنفس بصورة متقطعة ،سألها ساخراً : ما حكاية هذا العريس الذّي يقولون أنك ستتزوجين به ؟؟!!
لم تبالي ، ولم تُعر كلامه أية أهميه وتابعت تصفح المجلة وتابع هو بخفة دم مصطنعة : من يراك تتصفحين المجلة يظن أنك تقرئين شيئاً وأنت لا تنظرين إلا إلى الصور هوه هه هاها.
استفزها كلامه فثارت عليه كعادتها فهما هكذا دائماً عندما يجمعهما مكانٌ واحد انتفضت من كرسيها ورمت المجلة بحركة لا إرادية أمامه على الطاولة وغادرت المكان ، مد يده لسلة الفواكه وأخذ تفاحة خضراء رفعها عالياً ولما سقطت في يده قضمها بشراهة مستخف بما يجري من حوله نظر إليها بتعال وهي تغيب بين أشجار النخيل الصغيرة الوارفة الظلال ، فخدشتها أحد أطرافها الحادة فأقشعر جسدها، وزاد توترها،أمسكت ذراعها بأسى وحاولت أن تحبس دموعها لكنها فاضت أخيراً ، تنهدت بقهر وبكت لقد آلمها كما يفعل دائماً، مازال يتمادى ككل يوم،لم تعد تتحمل نظراته تلك،ازدراءه تهكمه . جلست بالقرب من النافورة بعث رذاذ الماء المتناثر بعض السعادة في نفسها وغابت في بحر من الذكريات جاءها أولاً صوت أُمها وهي تلعب مع ابن خالتها (ماجد)
كانت حينذاك في الرابعة من العمر وهو في السنة السادسة
– ماذا تفعلان أيها الشقيان ؟؟
-أُمي انظري إلى هذه المراكب الجميلة.
– سفينتي أنا أجمل أليس كذلك يا خالتي؟
– لا بل مراكبي الشراعية أجمل فسفينتك ليس لها شراع .
– لا بل سفينتي أسرع وأكبر من مراكبك الصغيرة.
– لا بل مراكبي أكثر عدداً لذلك فهي الأكبر.
– لا بل سفينتي . . .
– أنجديني يا أُم ماجد لقد عادا إلى جدالهما العقيم .
– أنتما هكذا دائماً في جدال مستمر !!
– دعيهما يا أم ماجد فغداً يتحول هذا كله إلى حب كبير لا يغيره الزمان.
– هيه يا أُمي لقد عكس الزمان قولك وتحول جدل الطفولة إلى كابوس لا يرحم
لمس أحدهم كتفها بهدوء وهي في حالتها تلك شاردة الذهن ، لم يرف لها جفن التفتت ببطء فإذا بصديقتها (وفاء)
– أهلاً بك يا وفاء تفضلي
– كيف حالك يا هند ؟؟
– آه مثلما ترين !!
وأشارت بعينيها نظرت وفاء إلى حيث أشارت هند وأعادت نظرها إلى عينيّ هند المغرورقتين بالدمع وقالت : هل ما زال يغضبك كالعادة ؟؟
وضعت رأسها على ذراعيها المسندتان إلى ركبتيها لتفيض دموعها الحارة مسحت وفاء على رأسها بحنان وسرعان ما أجهشت بالبكاء ، نظرت إليه متسائلة:
– أنا لا أفهم لماذا يعاملني بكل هذه القسوة مع أني لم أفعل له أكثر من الّذي فعله هو!! ألأنني لم اخبر أحدا بما جرى؟
– اهدئي يا هند
– أنا لست الملامة وحدي لكنني جبانة لا أستطيع الوقوف بوجهه ، لقد أوهمني بالحب وصدقته وفي أول فرصة سنحت لم يتوانى دقيقة في اغتنامها,لحظة ضعف منه مازلت ادفع ثمنها غالياً عندما لم يستطع كبح جماح شهوته ولحظة ضعف مني عندما خفت من كلام الناس ولم أصرخ حتى لا افضح أنا وهلي والخطأ الأكبر بعد ذلك أنني لم اخبر أحدا بما حدث بيننا لا أستطيع أن أغفر له ولا حتى لنفسي أبداً, أبداً
– كل شيئا انتهي فما الّذي يحزنك الآن ؟
– أنا لا أبكي على ما مضى بل ما يحز في نفسي ما سيحدث بعد يومين
– هل ستخبرين أحدهم : أُمكِ ؟ أخيكِ ؟أو حتى خطيبكِ ؟
– من ؟ كيف أُخبرهم بالله عليكِ وأنا أُحاول أن أتناسى الموضوع إلا أن رؤياه في
كل مرة تذكرني بتلك الليلة المرعبة.
صمتت قليلاً ولكن عقلها انطلق سريعاً ليجسد لها ما حدث في تلك الليلة وكأنه يحدث للمرة الثانية، كان البيت مزدحماً بالضيوف، فقد أقامت والدتها- كالعادة- وليمة عشاءٍ فاخرة دعيت إليها كل سيدات المجتمع الراقي، زُينت الحديقة، وهيأت لاستقبال الضيوف أُعدت الموائد وملأت بأصناف الطعام والفاكهة والحلويات والورود النضرة ، والموسيقى تصدح عالياً هادئة مرة وأُخرى صاخبة.وفي وسط الحفل أنسكب العصير على فستان هند فصعدت إلى غرفتها لتبدله بسرعة وتعود لإكمال السهرة،خطت برشاقة متجهة إلى غرفتها كان ابن خالتها( ماجد) في غرفة أخيها(أحمد)- الّتي كانت غير مواجهة لغرفتها وتبعد عنها قليلاً غير أنها في نفس الطابق العلوي- كان خارجاً لينادي أحمد الذي تأخر في العودة من الطابق السفلي بعدما استأذن من ماجد وذهب ليبحث عن إحدى الاسطوانات في غرفة أخيه (هيثم ) مع أن الأخير حذره ألف مرة من اخذ اسطواناته أو حتى دخول غرفته المليئة بالأسرار والحكايات المسطرة على الجدران والنوافذ ، عندما وجدها ماجد أراد أن يخبره حتى يصعد أليه بسرعة وفجأة لمحها وهي تدخل غرفتها برشاقة وقبل أن تختفي عن ناظريه رفعت يديها عالياً لتنزل (السحاب) ودخلت غرفتها برشاقة وهو يراقبها من بعيد ودون أن يشعرها بوجوده , فتحت الدولاب اختارت فستاناً طويلاً زهري اللون ، أنزلت فستانها السابق سقط على الأرض وفجأة فتح الباب فإذا بابن خالتها ماجد يدخل دون استئذان أدهشها دخوله هكذا حاولت أن تستر نفسها بأي شيء رفعت فستانها الزهري غطت به بعض أجزاء جسدها اقترب منها بهدوء بعد أن احكم إغلاق الباب أشار إليها بأن تصمت
ارتجفت من الخوف وسقطت على سريرها جلس بالقرب منها مد يده إليها سألته بصوت مرتجف وتلعثم واضح:ماذا تريد يا ماجد؟! وكيف تقتحم غرفتي بهذا الشكل؟ ألا تستحي من نفسك وأنا أختك
صرخ في وجهها: كم أخبرتك أنني مغرم بك ألا تفهمين؟ أنا حبيبك و لست بأخيك . هدأ قليلا ثم عاد للقول : اشتقت إليك كثيراً ،كل يوم يمر بي دون رؤيتك لا أحسبه من عمري آه . . يا حبيبة عمري أتذكرين أيام الطفولة كيف كنا نلعب سويا ونغني ونعانق بعضنا، تعاهدنا ألا يفرقنا الزمان ولا حتى الموت، كنا ننام في سرير واحد ونلامس بعضنا و…
– لكننا لم نعد أطفال كل ما ذكرته ليس له أي معنى تصرفات عادية تصدر من كل الأطفال ولو أنك فهمت غير هذا فهو خطأك وحدك وذنبك و ليس ذنبي ..
– أتنكرين أنك بادلتني نفس المشاعر ؟ ألم نقسم بأننا لبعضنا وأننا سنتزوج عندما نكبر ألم تقل والدتينا أننا لبعض منذ أن كنا في المهد؟؟
– لكنه لم يحصل أي شيء من هذا و لم نعد أطفال فهيا اخرج من غرفتي وإلا سأصرخ
– من الذي قال لك هذا مازلت في عينيّ تلك الصغيرة الجميلة المدللة أحبك لم أعشق سواك منذ أن فتحت عينيّ لم أرى امرأة غيرك ألا تحبينني ؟ أتريدين الصراخ هيا اصرخي وسأصرخ معك وسيعرف كل سيدات المجتمع أننا معاً في غرفة واحدة وأنتِ عارية كما أنت الآن أتعلمين ما الذي سأقوله عندما يحضرن:
أنك أدخلتني بنفسك و..
لم يكمل لكنها فهمت ما يرمي إليه. معه حق من الّذي سيصدقها؟ لا أحد أخذت تبكي لكن دموعها البريئة لم تردعه عن عمله رغم أنه لا يتحمل رؤيا دموعها الغالية تهدر أمامه ولا يحرك ساكناً إلا أن الشيطان أعماه في تلك اللحظة،تخلت عن فكرة الصراخ فالعواقب لا تحتمل وفكرت في المقاومة، قاومت بكل ما تملك من قوة حاولت ردعه بكل طريقة ضربته شتمته بصقت في وجهه لكنه لم يهتم واصل عمله بإتقان وكانت للكماتها تلك أثرها الواضح على جسده القوي وقبل أن ينتهي رفسته بقدمها رفسةً قضت معها على رجولته كانت بمثابة الانتصار لها لكنها خسرت رغم كل شيء لم تستطع متابعة الأحداث المؤلمة وعادت إلى الواقع مجروحة القلب والكرامة متألمة صارخة…
– (يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسيا )
نظرت إليها صديقتها وفاء وقد شعرت بما دار في رأسها ضمتها إلى صدرها وربتت على كتفيها وقالت:ارحمي نفسك يا هند
– ماذا أفعل يا وفاء لم يبقى سوى يومين على موعد الزفاف ما ذنب أهلي وما ذنب الرجل الّذي سيتزوجني؟ ليس هناك حل لمشكلتي إما الزواج والفضيحة لي ولأهلي أو … وبعدها ينتهي كل شيء
– أنا لا أريدك أن تفكري بهذه الطريقة المتشائمة حاولي مصارحة خطيبك قبل الزفاف ربما يتقبل الأمر خاصة أنه متعلم ومثقف ومتفتح ومن عائلة كريمة متحضرة
– أنت قلتها بنفسك بالله عليك من في مركزه يقبل بـ…أساسا لم يتقدم لخطبتي إلا لسمعة أهلي الطيبة ومكانتنا الاجتماعية ويقول أنه ترك خطيبته الأولى فقط لأنه سمع أن أحدهم كان ينوي خطبتها فظن أن بينهما علاقة فتركها فما بالك لو علم..؟!
جاء موعد الزفاف سريعاً كانت كأنها ليلة الإعدام بالنسبة لها حضر المعازيم ولبست الثوب الأبيض الفاخر الّذي تتمناه كل فتاة إلا هي ، بارك الأهل زواجها وعريسها يكاد يطير من الفرح واللهفة للقيا عروسه وقبل أن تزف إليه أنهت حياتها وزفت إلى قبرها وتحول الفرح إلى مأتم ، راءها ابن خالتها وهي في حالتها تلك بثوبها الأبيض ملقاةً على الأرض جثة هامدة فرح لأنها لم تزف إلى غيره ضحك والناس يبكون ضحك وبكى في آن معا حتى فقد عقله إلا آن أهلها مازالوا يتساءلون عن سر انتحارها وانطلقت الشائعات كل يرجح السبب على هواه ولا أحد يعلم بالحقيقة بعد الله إلا صديقتها وفاء التي كتمت السر في داخل قلبها للأبد فكانت اسم على مسمى.
النهـــــاية

لكتابة رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *