موضي الشايع.

جسد نحيل …
مسجى أمام المصلين …
في غرفة الانتظار …
لحظات من النشيج …
كالطير فوق رؤوس المصلين…
بين لحظة وأخرى تختلط بالدعاء …
جسد منقول على الأكتاف المحتدمة …
في الطريق إلى محطته الأخيرة …
أجواء الحزن الصارخ في العيون …
لكن المشهد اقرب إلى حفلة عرس …
مختلف الأعمار …
وتنوع في الهيئات و السحنات …
يودعون امرأة في لحدها …
ينصرفون ولا ينصرفون .
*
دخلت عليها …
في غرفة انتظار الموتى …
دنوت منها …
وضعت وجهي فوق جبينها …
توحدت معها بكل حواسي …
ليتني لو كنت معها …
بيننا كفن ابيض وألف خطوة …
بكيت بصمت …
اسمع صوتها …
يأتي من ذاكرة الأيام السحيقة …
اسمعها بكريات دمي …
بللت عباءتها السوداء …
بدموع نازفه كأنها الشظايا  …
محملة بتعب كل القارات البعيدة …
والمحيطات المضطربة …
يتسلل طعم (حلوى الملبس الأبيض)  …
إلى حلقي وحبات الحمص المجففة …
والفول السوداني …
تستيقظ كل تلك اللحظات المنهارة …
أمام تحولات الزمن العجيب  …
ويهتف الدمع على جبينها …
مثل مطر صحراوي خارج الموسم …
قفزت في ذاكرتي صورة أصابعها النحيلة …
و خواتهما المضيئة …
و كفيها اللتين لا تمتدان …
إلا كباقات الورد محملة …
بالبياض والسكر والزعفران …
جدتي لأبي …
كانت أجمل مفاجآت الكون  …
لطوابير من أحفادها …
وهم يعودون من المدرسة …
يتوقفون عند مسجدها الصغير …
يتحسسون أصابعها وكلماتها الدافئة …
يتزودون بالمن والسلوى …
اهرب إليها من هجير تلك الأيام اليابسة …
عند غيرها والممطرة معها …
*
امرأة تخرج من حدود سجادتها …
لتعود إليها فقط …
كانت جدايلها مفتولة  …
من التسامح و خواتهما من نور …
رحلت حاملة معها سبع سنوات …
وقرناً من الزمان …
سنوات مكتنزة بحضورها …
الإنساني الخلاق …
كتبت إليها أول رسالة حب إلى امرأة …
وهذه آخر رسالة حزن إلى امرأة …
لم يهدها باقة ورد …
لم يتذكرها مخلوق في عيد ميلادها …
لم تصلها بطاقة حب بالبريد من احد …
لكنها كانت قافلة حب …
وشجرة ميلاد وارفة الظل …
شجرة للحلوى وحقولاً من الكلام الجميل …
يتدفق منها ما يشبه ماء الينابيع العذبة …
*
جدتي  موضى الشايع …
أول امرأة …
وآخر امرأة اعترف أنني احببتها  …
حبيبتي الأولى …
والأخيرة و الوحيدة مع أمي …
*
جئت من لندن …
لكي أراها وهي لا تزال نائمة …
فوق السرير …
جئت لكي اسمع أغنيتي الأخيرة  …
بدت شاحبة وصوتها بلا ذاكرة …
خرجت دون أن اسمع عبارتها المشهورة …
يالله تطوي سفرهم …
وتعبد خطرهم …
عرفت أن اللقاء ما قبل الأخير …
قررت أن لا أعود إلى لندن قبل أن أودعها …
*
كانت الصدقات تجري على يديها …
مجرى الماء في الأرض الطيبة …
فتثمر تلك الأشياء فراشات …
و غابات رياحين و ياسمين وابتسامات …
ماتت المرأة …
التي كانت كغيرها من الخيّرات …
تملك البورصة القادرة على تحويل المعادن …
والعملات إلى حسنات تمشي على الأرض …
وتطرق الأبواب …
وتنشر الدفء في القلوب المضطربة …
ماتت حبيبتي بهدوء …
وهي قريرة العين …
مشى إلى مقامها الأخير زرافات من الناس الطيبين …
شيوخ وشباب واطفال …
بكتها النساء في قرى متباعدة …
خسرنا منذ تلك اللحظة دعاءها الجميل …
كان وجودها بالنسبة لي قناع أكسجين …
مظلة تنقذني من تلك الألغام …
والكمائن التي كنت أقع فيها من حيث لا أدري …
بطهرها و بياضها كنت أخرج بأقل الخسائر …
*
سقط السياج …
ماتت جدتي …
يتلبسني خوف من حياة فارغة بدونها …
تركتنا ندخل القرن الجديد بدون قنديل عصمتها …
ندخل القرن الجديد بدون أم سليمان …
يا له من قرن بائس وموحش …
*
سيكون أكثرنا حظاً ( أولادها وأحفادها ) …
من يلحق بها اولاً …
كانت بوصلة للخير وصندوقاً …
ابيض لكل حركاتي وسكناتي …
*
خرجنا من المقبرة …
مزهوين بذلك الغبار …
الذي لحق بأهدابنا وجباهنا …
ونحن نواري جسدها النحيل …
عن الأنظار لا عن القلوب …
ماتت شجرة النبل و فاكهة الشرف الرفيع …
وسلطان البساطة والبراءة …
كيف تعيش امرأة قرناً من الزمان …
دون أن تخرج منها كلمة نابية …
كانت خارج الزمن بطريقة مختلفة …
كان الزمن يدور حولها …
مثلما تفعل الأرض مع الشمس …
الموت حق …
لكنه أصعب احياناً …
هذه المرة بالذات …
سبقتني …
وأرجو من الله أن يفتح علي يدها ابواباً كثيرة …
بدون محبتها ستكون مستحيلة وموصدة …
*
في تلك اللحظة فقط  …
عرفت معنى ذلك الحزن …
الذي يحتاج كبرياء الرجال ونجاحاتهم …
عرفت كيف يتلبس ذلك الحزن السرمدي …
رجلاً مثل ( إبراهيم الطوق ) …
لأنه فقد والداته …
على الرغم من كل نجاحاته المميزة …
وحضوره الإنساني الرفيع …
ثمة أمهات مثل بوصلة …
لقائد سفينة في محيط !! …
*
كانت النخلة الأخيرة …
في واحة يحاصرها الجفاف !! …
والقلعة الأخيرة في حصن تطمسه الرمال الزاحفة …
ماتت جدتي …
نقص الكون نخلة باسقة …
أصلها ثابت وفرعها في السماء.
—*—
صالح العزاز
(رحمه الله)
الخميس 2/12/1999 م

ردين على “موضي الشايع.”

لكتابة رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *