الكتابة وجمالية التخييل
إبراهيم القهوايجي:
الكتابة وجمالية التخييل
مقاربة في \”الغزالة تشرب صورتها\”
\”إ ن طيفا غير غريب علي يخفق من حولي، فأتذكر حبي الجنوني الغـابر\”.
بوشكين
إبراهيم القهوايجي
\” الغزالة تشرب صورتها \”(1)، هي الأضمومة الشعرية الثالثة في تجربة الشاعر السعودي على الحازمي ، والديوان من القطع المتوسط ،ويشمل ستة عشر نصا ،موزعة على ثلاثة إضاءات أو أبواب هي على التوالي 🙁 جمر يغفو..امرأة تحب)، (حب مريض) و( فضية تتعثر)، وجميع نصوصه الشعرية مصاغة بلغة حبلى بالإنزياح الدلالي ، وبمنظومة لا متناهية من الرموز والعلامات والصور المنثالة والمتحركة في دائرتي : الحب والجمال ، والديوان بهذا الزخم يشعل في أذهاننا جمرا من الأسئلة المتوقدة التي لا تخلو من لذة .
غـــــزالة العنـــوان:
أولت السيميولوجيا أهمية بالغة للعنوان، باعتباره علامة لغوية إجرائية ناجعة لمقاربة النص الأدبي ، ومفتاحا أساسيا للولوج الى عوالمه وسبر أغواره قصد تأويلها من خلال استكناه بنياته التركيبية والدلالية والرمزية.. ومن هنا صاغ علي الحازمي عنوان ديوانه الثالث بجملة مركبة ، منطلقها المبتدأ(الغزالة)، ومتممها الإسنادي الجملة الفعلية الواقعة خبرا للمبتدإ(تشرب صورتها) ، والعلاقة بين الحملين علاقة إدماجية. أما ، من حيث البنية المعجمية ، فالعنوان يتألف من الوحدة المعجمية(الغزالة) باعتبارها ذلك الكائن الرشيق الموسوم بالحركة والالتفات والمتميز بالجمال، في حين تدل الوحدة المعجمية (تشرب) على حدث في الزمن الحاضر ، والفعل واقع على صورة الغزالة .فكيف يمكن أن تشرب الغزالة صورتها ؟إنها تقتنص النظر – كما في ثنايا النص – الى صورتها من خلال انكبابها في صفحة الماء ، وهو ما يتقاطع مع أسطورة (نرسيس) اليونانية ، وهو ما يشي بالبعد الذاتي الذي يؤسس عليه هذا الديوان أفقه الرؤيوي والرمزي ، وهكذا يتخذ الشاعر من الغزالة صورة استعارية مركزية في الديوان ، وبالنظر الى امتدادات هذه الصورة في حسد النصوص نلفيها تتقاطع من خلال الثنائيات في المستويات التالية :
– الغزالة لم تر صورتها إلا فيزمن فريد وكذلك الشاعر لا يأتيه الشعر إلا في زمن الشعر الخاص.
– الغزالة كائن جميل مثلما الشعر كلام جميل
– الغزالة تشارك الشاعر ذكرياته مثلما يشارك الشعر الشاعر وجوده
– الغزالة تستغرق احتمالات تأويلية متعددة، كما الشعر تماما ، ومن هنا تتجاوز هذه اللفظة دلالتها المعجمية الحرفية لتأخذ مدى واسعا في الدلالات الرمزية التي لا ينفك علي الحازمي من أن يعود إليها من حين لآخر ، وبمعان مختلفة ومتضادة ، فالغزالة هي الشاهدة على أسطورة الجدب (تجلس الذكرى أمام النبع تروي للغزالة/ قصة العطش المقيم على الضفاف ص12) ، وهي الممر الى الغواية (لم ننتبه /لذبول خطوتنا على الصلصال/ أغوتنا الغزالة حين فرت من قوائمها/..ص27)، وهي امرأة جميلة (مثلما الكائنات الجميلة في الأرض/ الغزالة تمضي الى شأنها حرة /عند الظهيرة /تذهب للنبع تغسل حناءها/..ص39) ، وهي طفل الصباح المدلل(الغزالة طفل الصباح المدلل في شجر الكلمات.ص40)، وهي ناي الوقت(الغزالة ناي الوقت يؤثث صمت الجهات.ص40)، وهي توق الحياة(الغزالة توق الحياة الى نفسها /خصر الجمال النحيل تروضه النغمة الثائرهص40)، وهي القصيدة (الغزالة ريش القصيدة حين يحط طواعية / فوق شال الكلام..ص40)، وهي الرغبة الشهوانية (الغزالة جرح نهيج من المسك/ في شفة الرغبة الآسره.ص41)، وهي الزمن المريض(الغزالة ليل مريض يطوق صمت الحبيبين..ص41)، وهي أرض التصالح( الغزالة أرض ضرورية للتصالح/ بين خصوم الطبيعة والبشر الطيبين.ص42)، وهي الحرية (الغزالة حرية في الأقاصي .ص42)، وهي مطية الخيال(..جناح المخيلة ص42)،وهي العدم (الغزالة صفر البداية..ص42)، والوجود(..خيط رهيف / يشد إلينا الجهات…/لنبقى بمنتصف الدائرهص42).ومن هنا تبدو لفظة الغزالة لفظة مشعة في العنوان والديوان برمته ، بحيث تصير محملة بظلال وطاقات رمزية مصاحبة توحي للقارىء ، ولا تكشف له كل أبعاد النص ، بل تدع له فسحة من التخييل ليملأ ثغرات البياض النصي، ومن هنا قدرة الشاعر على تطويع الكلمات والارتقاء بها الى مستوى دلالي وعاطفي عال ، يمكنه من القبض على مشاعر قارئه من خلال إخراج هذه الكلمات من معانيها الحرفية وتحويلها الى علامات لغوية مشحونة بالعاطفة والحياة ، وكأني بالشاعر يقيس نبض القارىء ، وهو يمسك بخياله وتوقعاته، للانحراف أو الانفلات نحو ما رحب من الآفاق والاحتمالات التأويلية .
الشعرية الغنائية- الوجدانية:
يتميز ديوان \” الغزالة تشرب صورتها\”بمسحة غنائية متوغلة في أوصال نصوصه ، بحيث تجعل مفرداته تنتج نوعا من التطريب ، والشاعر في ذلك يوظف كل المفردات التي تصله بعوالم أرضه/قريته وطفولته بها ، لذلك تكثر في الديوان مفردات توحي بهذه الاجواء (الغيم ، السهل، العشب ، صخور التلال ، القصب ، الحقل ، الشمس ، الخيل ، الفراش ، السنابل ، الريح ، القمح، النخل، النبع ، الغزال ، الفصول ، نجوم القمر ، الندى ، الصلصال ، القمر ، التراب ، الضفاف ، الطير ، الحمام ، الهجير ، الرمل ، الأرض ، البحر…)، وهي كلها مستمدة من الحقل الطبيعي ، الذي ركز الشاعر على تتبع عناصره بوصفها مظاهر جزئية أو خارجية تشترك في إثارة الإحساس إزاء الحب والجمال في العالم لتصوير حالته النفسية ، ولو أنه تناول العناصر الطبيعية المذكورة بما هي أيقونات تستلزم محالا عليه ذهنيا غائبا تستحضره فاعلية القارىء ، لذلك أكثر الشاعر وهو يرسم لوحة الحب من استعارة أدواته الفنية من الطبيعة ، حيث ينتقي منها معادلا فنيا استعاريا أو قرينا مجازيا يوحي بمواصفات المرأة ، كقوله :يا حبيبة مري على الغيم / دعينا نطوح بالأمنيات على مفرق السهل / حين ولدنا/ كما العشب بين صخور التلال القريبة..ص11، وهكذا يتخذ الشاعر من الطبيعة علبة أصباغه، يلون بها لوحة المرأة والحب والجمال والعالم، ويرفدها بإيحاءات التجدد والخصب: وحدها خيلنا / حين تغدو إلى النبع / تشرب من خيلاء يلوح/ على فضة الماء ، / تظل تراوح في سهل ثورتها / بانتظار المهب:/ كم تتوق طويلا لعودة فرسانها / من خريف بعيد ص18 ، وفي مواضع أخرى الأخير تستجيب الطبيعة لآماله وأحزانه لتبدو في نصوصه بسمات مؤنسنة: تجلس الذكرى أمام النبع تروي للغزالة / قصة العطش المقيم على الضفاف / وكيف لاح الغيم في خجل من الماضي / ليزهر غصن قامتك النحيل ص21 ،وما إن يتعمق القارىء في عالم نصوص الديوان حتى يلمس هذا التواشج الوثيق بين الشاعر والطبيعة ، وهو ما يستشف من قصيدة \”جناح المخيلة \” ص 39 .وهذه المظاهر الطبيعية ليست مجرد مظاهر لحالات وصفية ، بل تعكس علاقات حضورية في الزمن الذي توحي فيه بوجود علاقات غائبة تحيل على الغائب الدلالي :\” لنا الله / حين يلف اليباب حقولا من الحلو / رحنا نربي سنابلها في الفصول العصية\”ص17 ، وقول الشاعر :\”عودي الى سهل الحنين / كما تعود الطير / من ترحال نجمتها البعيدة / فلدينا ما يكفي لتربية الصغار / إذا أتوا من غيب غفوتنا / على عشب السماء / لدينا شمس في سلال الخبز / تكفينا لننضح تحتها وترا / على كل الفصول \”ص 30
، وبهذا نجد ذلك التطابق بين المرأة والطبيعة في الديوان من خلال نصوص : تبذرنا شمس آب ، نخلة… تسند العمر، يحيك خيبته مناديلا ، غصن وحيد للغناء ، عائشة ، جناح المخيلة حب مريض..وهو توظيف يوحي بحالة نفسية أو شعورية ، وبالتالي تمتزج العاطفة بالوعي ليتضمن دلالات ذات أبعاد إنسانية تتمخض عنها تجربة المرأة في بعث مجتمع بدوي له ما يسوغه في وجودها ، باعتبارها رؤيا شعرية : الصراخ الذي سال من شرفة / في علو البناية / لم يكن غير رغبتها في التحرر / من قيد عزلتها العاطفي..ص61، وبهذا يتم النظر الى المرأة / الأنثى من زاوية عميقة تتحول فيها الى حقيقة إنسانية و إلى جوهر شامل عبر تناص الطبيعة المعاكسة لصورة الخصب ، وتناص الذاكرة التي ترى في المرأة مجرد قهر وخطيئة، وتناص اللغة التي تطلق تحررها وإرادتها ، فتغدو المرأة امتدادا حضاريا في الوجدان ، لذلك عالجها الشاعر في المنحى الصوفي على اعتبار أن الشعر توجه داخلي تمليه تجربة وجدانية تقوم على رؤية الباطن على عكس الواقع الذي ليس إلا صورته الظاهرة ، والملفت والجميل في الديوان ،إن المرأة غدت تجسيدا رمزيا لكينونة متألقة وموجهة بشعرية متميزة في المقطع التالي :\” معا باليدين/ سنقطع درب السؤال الأخير/ إلى حلمنا/ سنمضي الى قبلة الأغنيات الشريدة، / سنمضي…/ وإن يسقط العمر من روحنا قطعة / لن نعود إليها/ سنتركها فوق كف من الرمل / كيما تؤلب فجر الهديل البعيد/ ستزهر / باسمي واسمك من برعم / غائر في النشيد/ سنولد ثانية لا تخافي!/ سنولد/ لو بعد ألف سنه\”ص37 – 38.وينهل أيضا صوره ورؤاه من عالمه الذاتي ، وهو في ذلك يحسن الإنصات الى نبضات قلبه، وإلى مشاعره ، إلى تيار البوح السري والخفي ، وهو ما يلون الديوان بالطابع الذاتي الوجداني ، ولعل الشاعريحس بنوع من التعويض الذي يمنحه ضربا الامتلاء بعد نهايته من كتابة هذا الديوان ، فأفكاره تتماوج بين حالة مكتوبة وأخرى مكبوتة في لغة شعرية ، وبين اللغة والحلم والواقع المعيش:حين تغفو سنابل أرواحنا/ في هزيع سريرتها القروي / يجيء هواك الجنوبي مزدحما / بالمواويل والاغنيات القريبة / من تعبي …/ كان طيفك يبذرني في الحقول / كحبة قمح تفتق وجه التراب / لتفصح عن حرقة كامنه \”ص32.وتبرز الذات الشاعرة مؤثثة بالحلم والرمز وبالدلالات الايحائية : ..واتركيني أصارع ريحا/ تريد اقتلاع جفوني / من الحلم… / حين تغيبين ص 20، ولعل الشاعر يضيق ذرعا بما يمور به المجتمع من مظاهر القبح من حوله ، لذلك يجد في الطبيعة موئله الذي يخلو فيه الى ذاته ، ينشد فيها الصفاء والعزاء ، وهو حين يحتضن بين ثناياها محبوبته يلقى فيها البديل عن الحنس البشري برمته ، وعودته الى الطبيعة هي في الاصل عودة الى ذاته واعادة الآعتبار العفوي والحر لها وتجاوز كل المواضعات الاجتماعية الضاغطة ، وبذلك يقرأ الطبيعة قراءة جديدة ، ويتخذ منها مكانا تربطه بها علاقة جديدة أيضا من خلال رصده لأسرارها وكشف حقائقها ، فيصبح الخريفمفضلا لدى الشاعر الذي كرر لفظته في غير ما موضع ، لأنه يتفق ونفسه الحزينة ، ولأنه إيذانبتوقف نبض الحياة التي استحالت ذبولا وتحللا وفناء : \” حين مال الخريف على ليلها / وهي تصغي إلى وردتين /تنامان في خدها انطفأت روحه / في هديل المكان…/ ونام على دفء زهر تخبؤه / في صقيع الجسد/ كا أقرب من جيدها المرمري / إلى مبط الصدر / لكنه ظل في نومه صالحا…/ لم يحاول تحريك أمواجها الراكضة ص62 – 63.والشاعر في ذلك ينزع نزوعا صوفيا في بحثه عن المطلق عبر الطبيعة والذات ، وهي مهمة ميتافيزيقية ، وعليه تقع مسؤولية تفسير الكون ، وهو مايتبدى في بناء صوره التي تتحد فيها الذات مع الموضوع من أجل تشكيل الرؤية الانسانية في أفقها اللامحدود ، وعليه تشكل الذات بؤرة اهتمام الشاعر في الديوان ، فيطغى على شعره البعد الغنائي والوجداني الطافح بإحساسات الغربة والحزن والاحساس بالمشاعر الانسانية وفي صدارتها الحب: مثل الندى الغافي / على ظل الفراشة… حبك ، عصفت به الذكرى على العتبات / في صمت الخريف الانساني ص23 …وأجلسته على نهايات الكلام / يحيك خيبته مناديلا / تلوح للمدى في سربه،/ لعل هذا الصبح يحمله الى غده القريب / فدرب رحلته الى الماضي يطول ص24 ، وبهذا استطاع الحازمي الاشتغال على تراثه الباطني متجاوزا مفهوم الانعكاس المرآوي ليدرك بهاجسه الشعري ا تنطوي عليه الذات من امكانات ابداعية روحية، وبالتالي يربط تجربته الشعرية بالتجربة الباطنية في استغراقها الوجداني والباطني على نحو صوفي ، \” والحال أن الشعر حالة روحية غير قابلة للتجزيء ، وهي وإن كانت منبثقة من جدل الوجود والوجدان ، فإنها تتسامى باتجاه تحقيق نظامها الخاص واستقلالها الذاتي.وكل ما يمكن أن يبدو تجليا شعريا لمفاهيم صوفية خاضع ، بضرورة الابداع ، لطبيعة التجربة الشعرية ، وفق عملية امتصاص وتحويل مستمرة \”(2)، ومن تناغم التجربة بين الشعري والصوفي نورد المقطع التالي : لنا ما لنا / من منابت للحلم نرقبها / في كفوف التلال القريبة ، / جناح الهجير يهدهد / أرواحنا بالرضى حين نرعى الشياه / بمنحدرات الجبال المطلة ،/ وجه الحياة يظل يضاحك /طفل رؤانا المريض على حزنه / والسماء تجعد من حاجبيها طويلا …/ عشي التعب ص 18 – 19 ، مما يسم نصوص الحازمي برائحة الأرض (التلال ، الهجير ، الشياه ،الجبال …) وهذه الوحدات المعجمية تعيد لنا ذاكرة طفولة الشاعر / ومن تم عشقه لكل ما هو قروي لدرجة أغدق على فضائه البدوي صورا باذخة في الديوان ، كلها تتضوع عفوية وحياة بسيطة تكاد تنسنا غربتنا في المدينة العربية الصاخبة ، التي جعلت الشاعر ينصت لكائنات الأرض في شعرية أخاذة :لم ننتبه / لذبول خطوتنا على الصلصال / أغوتنا الغزالة حين فرت من قوائمها / لتبلغ فضة الأوقات في غدنا الشريد /لم نختلف عن أمس غربتنا كثيرا / بل تغير صوتنا في الظل مذ نبت الكلام / على حواف الصمت / في دمنا المجفف بالسؤال ص27، فالشاعر مشدود الى الطفولة والصلصال والريح: كلنا انتهينا حين أهدر ليلنا / الفرص الأخيرة للتوحد..ص59، إلى أجواء الجنوب الذي يقيم فيه الشاعر صلحا أبديا مع اليباب المتسلل ليس فقط الى الحقول والأشجار والأودية ، وإنما الى الأنساغ وعوالم الروح:..لنا الله / حين يلف اليباب حقولا من الحلم / رحنا نربي سنابلها في الفصول العصية ص17، ووحده النخيل ينتصب رمزا موحيا بالأجواء الطفولية الحالمة :هذه نخلة تسند العمر/ من وحل أيامه…أستظل بها / على مهلك / عندما تصعدين على جذع روحي المريض،/ خذي ما أردت / من الشغف المتيبس في عذقه / واتركيني أصارع ريحا / تريد اقتلاع جفوني / من الحلم…/ حين تغيبين ص20، ولعل احتفاء الشاعر بفضاء الجنوب له اعتراف ضمني باقترابه من عوالمه الطفولية ، عبر استحضار الذاكرة من أجل إعادة صياغة دقائق القرية وناسها المتعبين :بعض من الذكرى معتقة / تراوح في سلال الوقت / مذ نذر النخيل منامه ومقامه / ليكون حارس حلم ليلتك البريئة / من نجوم الصحو – حول رؤاك -/ حين يزورك القمر الجميل ص23 ، وقول الشاعر : \”حين تغفو سنابل أرواحنا / في هزيع سريرتها القروي / يجيء هواك الجنوبي مزدحما / بالمواويل والاغنيات القريبة/ من تعبي…/ كان طيفك يبذرني في الحقول / كحبة قمح تفتق وجه التراب /لتفصح عن حرقة كامنة \” ص32 .إنها شعرية القرية التي تسكن شغاف الشاعر وتملك عليه حواسه ، وفي ذلك تعبير عن المنظور الشرقي العربي على المستوى الذاتي في عوالمه المادية والمعنوية ، ولعل الشاعر بنحته للشعرية القروية الجميلة المسترجعة في الزمن الماضي ، يدين الزمن العربي المديني على اعتبار أن المدينة العربية الراهنة غائبة من كياننا الروحي ، ولعلها أيضا استبطان الشاعر لنزعة فكرية منحازة الى الثقافة الشرقية في خصوصياتها وهويتها المستلبة ، ورفض لكل مظاهر الثقافة الغربية المشيئة للحياة ، وفي المقطع التالي ما يوحي بهذا المعنى : \” ليس في العمر متسع / كي نسير على ضفتين / ولن تمكن من سرد سيرتنا / في كتابين منفصلين / عن الوقت والروح/ وليس لنا من خيار أخير / سوى أن نخبىء / في جسد جسدين\”ص15 ، وهذه النزعة البدوية تستبد بمعجم الشاعرالذي تهيمن عليه موجودات البيئة القروية من حيوانات(الخيل ، الحمام ، الفراش ، الغزال )، وأشجار (النخل ، القصب ، الصفصاف ) ، وتضاريس (السهول ، التلال ، الجبال ، الرمل ) ،وأثمار (الرمان ، عسل النحل ، القمح) ، وأزهار(السوسن ، الورد) ، وظواهر طبيعية (الشمس، الغيم ، الريح ، ..)، وشخوص(فرسان ، طفل)، وزمان (نيسان ، الخريف ) ، وأشياء(السلال ، السراج..) وأمكنة(المراعي ، الحقول ، ..)
شعرية الصمت والغياب :
من مواصفات الفضاء الشعري في الديوان أنه فضاء جنائزي مأتمي ، فضاء الموت والإقصاء والصمت بالرغم من أن بعض المشاهد الشعرية تعج بخطاب المرأة الطافح بالتحدي والفيض والامتلاء، ونلمس ثنائية الموت والحياة قيمة مهيمنة في ثنايا النصوص الحازمية ، ويمكن التمثيل على ذلك من خلال المتواليات التالية :
– ضيق الزمان # القمح والنخيل ص14
– توق الفرسان للعودة # الخريف البعيد ص18
– النخلة # وحل الأيام ص20
– وجه الحياة الضاحك # طفل رؤانا المريض ص19
– قصة العطش # الضفاف ص21
– ربيع القلب # المقيل ص22
– الندى الغافي # صمت الخريف الموسمي ص23
– صور العجز والتعب ص2- الكلام المجفف ص48….
وهذا التقابل بين الموت والحياة ، بين الخصب واليباب ، ينسحب حتى على توظيف الألوان من خلال كثافتها الإيحائية ، حيث سيادة السواد صراحة كما في قول الشاعر :\” فكي من وثاق قصائدي السوداء طيرا كم يسافر نحوك..\” أو ضمنا من خلال الأجواء الدرامية الدالة عليه كالليل :\” عيناك دفء قصائدي / قمر يؤنس ليل أغنيتي إذا مالت / على سعف النشيد \”ص29 ، وهكذا ينتصر صوت السواد والخراب بألوان طيفه المتموجة والقابعة في الأعماق ، لذلك شهدنا كما هائلا من الكائنات المصابة بالمسخ والتشويه، تبعا لذلك،في نصوص الديوان ( طفل رؤانا المريض ، السماء تجعد من حاجبيها طويلا ،نخلة تسند العمر ، جذع روحي المريض ،الشغف المتيبس في عذقه ، تجلس الذكرى أمام النبع ، العطش المقيم على الضفاف ،…ليصبح الزمن الراهن مهدد بطوفان اليباب وجفاف الأنساغ:خذي ما أردت / من الشغف المتيبس في عذقه / واتركيني أصارع ريحا /تريد اقتلاع جفوني / من الحلم …/ حين تغيبين ص20 ، فالحقول والعواطف والأشياء والأحلام والأرواح والذكريات والآفاق كلها تكتوي بجمر اليباب.إنها رمزية قائمة على التقابل بين ثنائية الموت والحياة ، وهذا التشوه اليبابي يمتد الى المحسوس والمجرد ، الواقعي والخيالي ، بل إن التلفظ ، في كل حين ، يتم داخل نفس الجملة الشعرية بهذه التمثلات المتنافرة ، على اعتبار أن الشاعر لا ينظرالى الواقع ككتابة مرجعية ، بل يدرجه كعلامة نصية سيميائية ، فالحياة الموسومة بالخصب في شعر الحازمي تنتمي الى مراحل الطفولة وفضاء القرية ، ونحن نلاحظ أن صورة النخلة توجد في تقابل مع مختلف صور الموت واليباب لتشكل طاقة ترميزية ممتلئة بالخصب والحياة ، لكنه خصب ميت ، لأن البعد الدلالي الذي يقوم هذه التركيبات والمكونات المتناقضة يجد صداه في الماضي المؤسس على الصمت والغياب والموت، والممتد في الوقت الراهن ، وكأني بالحازمي يكتب الحياة داخل الموت ، ولذلك توسل بالانشغال على بنية السرد لإبراز المدى الوجودي لتجربة الرحيل والفقدان الروحي للعالم قصد استشراف ما قد تتيحه هذه التجربة من أبعاد جمالية تكون هي المحفز الجوهري لكي نحيا هذه الحياة ، ، لذلك تدخل الذات مع الموضوع ، الوجدان مع الوجود في علاقة جدلية يوجه الشاعر من خلالها الفعل القرائي ويدعو القاريء لممارسة عملية التخييل / الشعر حتى يقارب التجربة الشعرية في شقها الوجودي ، فالذات الشاعرة تفنى في الموضوع الشعري علىنحو فكرة الحلول الصوفي ، أو تجعل الموضوع الشعري يستغرق عوالم الذات وهواجسها ، فيتحول الموضوع الشعري الى وجود مطلق متحرر من جميع أنواع السلط والمواضعات ، وهكذا نعثر على المعادلة الشعرية التالية :
الغزالة=عائشة= القرية=الحياة=الوجود.
إن الشاعر في ديوان \” الغزالة تشرب صورتها\” يتملكه هاجس الأنين المأساوي من جراء الخراب المهدد للأخضر واليابس، ومن جراء غياب الإشراقات المضيئة في الوجدان الإنساني ، وهو ما يردده الشاعر في قصائده ، فيرسم لنا معالم العزلة والغربة نتيجة لمفارقته الأرض والحب و ،الفطرة والبساطة:\” هل تكتب الدنيا / ولادتنا من الماضي/ كما عاد النشيد الموسمي من الصدى /هل كان يكفي / أن نظل على مسافة شارع / من روحنا / ألم يكن للعمر باب آخر لنحيد/ عن غده المريض \”ص28 ، وبالتالي يرفض الشاعر التصالح مع هذا الواقع ماضيا وحاضرا ومستقبلا في سيرورة تراجيدية تغمر الوجدان ، حيث الإحساس باليباب وخيبة الأمل في تحقيق كل ما هو ايجابي من الوجود الإنساني :\”مر عام على حزنها والعذابات/ مثل الطحالب آخذة في النمو/ على صمت جدرانها الباردة/ كل شيء يدل عليه /…ص61 – ..\” كل شيء هنا ينطق بالصمت.. في لغة جامدة \” ص62 ، وهكذا يعلن الشاعر بدأ واستمرار سمفونية اليباب، خصوصا وأن ما تبقى مما هو جميل سيلفظ غدا آخر أنفاسه ، بل لم يعد لوجوده في الذائقة العامة صدى ، لذلك يستقصي الشاعر حالات الموت الرمزي بدأ من الجدب الحال بالحقول وانتهاء بالموت الحال بالروح، ومن الطبيعي في هذه الاجواء أن تكثرفي تلابيب الديوان ، صور اليأس والإحباط والضياع الذي ينتهي معه كل شيء، ويسود الخوف من المجهول والمستقبل ، فلا يجد الشاعر الخلاص إلا في الحلم القادر على صوغ الوجه الجميل للحياة :\” لنا الحلم والوقت يا عائشة\”ص36
والظاهر من الديوان أن بلاغة الصمت تؤول إلى المعطى الواقعي السلبي المتمثل في فقدان الأشياء لمعانيها ، وقد يؤول أيضا إلى ميسم جمالي رؤياوي إيجابي يتجلى في الدنو السري مما هو مفتقد ،أو هو \” موقف ذاتي بحت ، إذ لم يعد في حوزة الشاعر شيء يذكر ومن تم تحول القائل من شاعر رسولي إلى شاعر هروبي ؟\”(3)، ومن تم يتضح أن الحازمي لاذ بالصمت تعبيرا عن موقف ذاتي مرتبط بالتجربة الذاتية له، والمرتبطة بالتمرد على توعكات الحياة وأشيائها، لآقتناعه بعدم جدوى الكلام في زمن تفتقد فيه معاني الأشياء، إضافة الى رغبة الشاعر في اكتناه جوهر الموجودات والنفاذ الى الطبقات الأركيولوجية للإنسان، وإحساس الشاعر الحاد بالفشل والانكسار واليباب. وتتخذ بلاغة الصمت في الديوان بعدا شكليا أيضا، يتمثل في كتابة البياض أو الفراغ ، أي ذلك التشكيل الكثيف لصور البياض والفراغ مقابل المساحة القليلة للسواد ، وهو ما يشي بصمت جمالي آخريعبر عنه الشاعر الألماني ريكله بقوله :\” ليس هناك أقوى من الصمت\”، كما يتجلى هذا الصمت الشكلي أيضا في توظيف الشاعر بكثافة لنقط الحذف التي يكتظ بها الديوان في الصفحات(13-14-15-19-20-23-24-25 -29-36-37-38-40-42-43-47-48-51-54-56-57-58-59-62-63-64-65-66-71-72-75-76-77-78-79-80-81-83-84-85
وعلى أساس هذا التوظيف الكثيف للحذف في الديوان ، فالشاعر يضع شرط اكتساب القاريء للقدرة على تعرية هذا الصمت، وملء كواته باعتبارها نفقا سريا يختفي كلما حاولتا الاقتراب منه ، ليستحيل الى أمكنة بعيدة وذات إيحاءات مشاكسة ، والحازمي لما تفوق في نقله الشحنات العاطفية المستنجدة بالكتمان ، كانا نزاعا نحو بلاغة الصمت شكلا ومضمونا .
جمــــــــالية التـــــــخييل :
يقول الشاعر لويس أراكون :\” ليس هناك شعر ما لم يكن هناك تأمل في اللغة\” ،ومن خلال هذا المعنى تأخذ اللغة الشعرية أهميتها بالنظر الىوظيفتهاو قيمتها الإبداعية ، هذه اللغة تستلزم من المبدع تفكيرا وجهدا إبداعيا ، وبما أن لغة الشعر تخييلية بالدرجة الأولى لأنها تنقل الى مخيلة القارىء ،ليسيطر التخييل على مشاعره ، ولعل أساس التخييل والتصوير يكمن في التركيب اللغوي الذي نحا فيه على الحازمي من خلال \”الغزالة تشرب صورتها\” منحى انزياحيا مكثفا ، مما كان له أبلغ الأثر في تفجير اللغة ، بحيث جعل نصوصه تحيا بالاستعارة تكثيفا وتوليدا ، ومن تم تفجير الأزمنة الاستعارية التقليدية بأزمنة استعارية جديدة من خلال خلقه فضاءات جديدة للتخييل تثير الغرابة والإدهاش ، فكان الشاعر أن أبدع علاقات لغوية جديدة وسياقات متنافرة لم يعهدها القاريء من قبل كما قوله :\” فكي من وثاق قصائدي السوداء كم طيرا يسافر نحوك\”، ويعتمد على عناصر لغوية لبناء الصور التجريدية ، والصورة عنده بتركيبها الانزياحي تحدد علاقة الأشياء بالناس متوسلة بالاستعارات لاكتشاف وتمثل هذه العلاقات كما تتحدد من خلال رؤيتها للواقع وتفاصيله كما في المقطع التالي :\” كلما مس التغرب دفئنا المجدول / بالقبل الأخيرة مرري ورد الكلام / على مفاصل وقتنا الخشبي /تزهر في عيونك شمس شرفتنا البعيدة\”ص66 ، وأيضا من خلال حساسية الشاعر العاطفية التي تنفعل بكل المستويات ، حيث يقول :ط حبك…/ كسائر الغرباء يولد من نهاية حلمه / يظل يودع بين ريش يمامتين /رسائل من شعر لوركا / في لياليه الأخيرة . ولغة الحازمي في الديوان لغة ايحائية رمزية بامتياز ، لا تكشف كل أبعاد النصوص ، بل تترك ممارسة تخييل القاريء ، إذ يقد النص دلالات جديدة في ذهنه ، دلالات لا تبنى الا بعد عملية مراجعة النص ومعاودة قراءته ، وعندما نود تحليل لغة شعره سواء في تركيب أصواتها أو مفرداتها أو وضع كلماتها أو بنائها الدلالي ، يتبين لنا أن خصائصها الجمالية تنكشف عبر تقديم رؤية كاملة للأشياء ، ويتم خلقها بوسائل فنية متنوعة أهمها الانزياح والرمز والتناص ،والتنقيح.ففي لغة شعر الحازمي نوع من التأثر بالشعر الرمزي المركز على وسائل الإيحاء ، والمبتعد عن الحشو والزوائد كالروابط العطفية والتعليل والشرط والانفلات من العالم المحسوس ، ووكل هذا يجعل شعره ذا بنية مخلخلة متشظية ومتشذرة بفراغاتها، كي يتفاعل معها القاريء، ونتيجة لذلك تتشتت دلالته كما في المقطع التالي :\” وإن يسلك الحب دربا شفيفا /- على ضفتيه يرف الفراش – / سيخطيء في حضرة الروح / معنى الوصول الى نفسه/ يظل يروض خيل الصبا في جوانحنا / بالصهيل الذي يتناغم / في خصر أحلامنا بالسرى\”ص79،ومن كثرة مراجعته وتنقيحه لنصوصه وصل علي الحازمي الى صقل شعره بمهارة فائقة ،وهذا ما يلمس أثناء القراءة ، حيث تشي نصوصه بتلك العناية الفائقة الدربة بالألفاظ المشعة والجمل المصقولة والأصوات الدالة ، وهو في دأبه على عملية تنقيح شعره يتناص مع مدرسة عبيد الشعر العربي، ولنقرأ هذا المقطع للوقوف على هذه السمات :\” كبرنا على الحب يا عائشة / وكدنا نضيع قبلتنا / في الدروب المريضة بالوقت / والتعب القروي / لم نكن واضحين كما ينبغي / للفراش بأن يتهافت في ظلنا /كان صوتك أقرب / للعشب من نفسه / حين ينداح بين صفوف النخيل / وينأى على ضحكة فاتنة \”ص31 – 32. ولعل الشاعر نفسه أشار الى هذا التنقيح بقوله :\” إن القصيدة حين تولد / بعد ليلك لا تكون قريبة من نفسها / تحتاج وقتا كافيا للنضج / فوق لهيب ماضينا وفضة نارها \” ص 53 ، فيغدو الديوان نصا شعريا متكاملا وحشوديا تطفح من خلاله المسافات والبنيات المتجانسة سواء كانت لغوية أو نحوية أو صوتية أو نفسية أو رمزية أو غيرها ، إضافة الى العناصر الخارجية للنص والإدراك الشامل للرموز والإشارات ، وبالتالي ينفتح الديوان على كينونة الكشف والإيحاء مادام الشعر يحتوي طاقات متجددة وعوالم خصبة ورؤى ملونة تتنامي بنحت الطاقات السحرية للغة ، وأيضا من إطلاق الخيال وهو يرتاد حدود التجريد وخلق عوالم لغوية مستقلة عن الواقع ، فيتوحد الشاعر مع نفسه أحيانا ، ومع اللغة أحيانا أخرى ، فتتحول تراكيبه الشعرية \”إلى ضرب من التجلي من خلال التجريد المطلق ، فيشارف مراتب الحلول في اللغة ويكاد معه أن يتحد بها اتحادا .عندئذ يعسر على السائل أن يسأل الشاعر ما الذي كان يقصده\”(4).وهكذا دأب الحازمي في الديوان على توظيف طاقات اللغة الشعرية ، وجعل لتركيب الكلمة والجملة الشعريتين وعلاقاتهما الداخلية أبعادا جديدة ، إنه خطاب شعري فاتن يحطم الأنساق ، ويلغي الحدود بين الكائن والممكن ، ويعتمد الومضة ، ويمعن في وصل المدركات والموجودات بلا روابط تذكر ، فيغدو التجاور النصي نوعا من التشابك الدلالي ، وتصبح الأشياء الميتة من كل معنى عبارة عن مزق من حيوات ، فثمة إيحاءات إلى أنوثة ماكرة (مثل الكائنات الجميلة بالأرض / الغزالة تمضي الى شأنها حرة / عند الظهيرة/ تذهب للنبع تغسل حناءها ..)،وإيحاءات رجولة مهزومة (أشلاء لجام تنضح منه الريح..)، وإيحاءات الى غربة الكائن ووحشته (لم ننتبه / لذبول خطوتنا على الصلصال..)، وإيحاءات الى زمن ضائع ، وعمر ممعن في الصمت والرحيل ( ..حبك ،/ عصفت به الذكرى على العتبات / في صمت الخريف الموسمي)، وإيحاءات الى موت ويباب متربص بالإنسان والحياة (كيف نحيا على ضفة تتآكل من تحتها/ والحمام يغادر من ردهات/ هوانا المجنح في باحة الدار،..)، ومن هنا ، أمكن القول أن الشعر لغة مكتوبة تعبر عن لغة مكبوتة في تراجيديا الوجدان الفردي الممتد في الوجدان الجماعي الهامس بتباريح التراجيديا الوجودية .
لم تعد الصورة الشعرية تعرفا على الشيء ولا هي تقريبا ذهنيا ، وإنما خلق رؤية خاصة له ، بتعبير صلاح فضل ، والصورة الشعرية الحازمية في :\”الغزالة تشرب صورتها\” تتغدى من ذات الشاعر وحالاته الانفعالية ، بهدف ايقاظ وتحريك الكوامن الشعورية ، والايحاء بالدلالات المستمدة من الذات والطبيعة وباقي المدركات لإخراجها في صور تجريدية يتراسل فيها المادي والمعنوي ، تضيق فيها المسافة بين الواقعي والخيالي ، فيغدو الواقع غير موجود إلا في رؤيا الشاعر ، ومن بين الحيل الفنية التي اعتمدها الحازمي تركيب الصورة تقنية الرمز القائم على التقابل بين جملة من الوحدات والمصادر ، التي يجرد منها شخوصا أو أفكارا أو مشاعر ، ويجعلها متعالية لتستغرق معاني التجربة الوجودية للإنسان ، ولنتدبر هذه الصورة في هذا المقطع الشعري :\” يحرث الوقت أرواحنا في جميع المواسم / قبل أوان الحصاد وبعده / ليس هنالك فصل جديد / من العمر نرقبه حين نجني ثمار عواطفنا / ونخبؤها في السلال / تظل السماء معلقة فوقنا / في الجنوب القريب من الروح / تسندها غيمة ممكنه \”ص33 .وكأني بالحازمي فيها يقدم حشدا من الصور والأحوال والأحداث ذات بنية متشظية لا رابط بين عناصرها لينهض التوليف الشعري كي يمنح لنوي البنية الدلالية انسجامها ، ومن خلال بناء الصورة تتحدد الذات والموضوع من أجل تشكيل الرؤية الإنسانية في مداها اللامحدود ، لذلك لا نستغرب من وجود لوحة الطبيعة تؤثث صور الحازمي ، باعتبارها منبثقة تلقائيا وبكل حرية للتعبير عن لحظة انفعالية تستهدف تجسيد انسجام الذات مع الموضوع ، بحثا عن صدق أعمق ، تتداخل فيه الذات/ الشاعر بالموضوع/ الطبيعة :\” حين تبذرنا شمس آب / على أول الحقل ما بين رمانتين وتنأى بعيدا / تصير دروب سماواتنا فضة للأناشيد /..\”ص12 ، وإذا لامست صور الشاعر الواقع ، فإنها تعريه وتسبر أغواره ، وتقيم له علاقات غريبة تقربه من عالم الأحلام، حيث التكثيف الزمنى والمكاني والحدثي والحسي ، وتجمع بين المتنافرات الخارقة لأفق انتظار القاريء ، فتنفجر الدلالات المجازية ، ولنقرأ هذا المقطع :\” حين تغفو سنابل أرواحنا / في هزيع سريرتها القروي / يجيء هواك الجنوبي مزدحما / بالمواويل والاغنيات القريبة / من تعبي …\”ص32، وما يرقش جمالية الصورة الحازمية قوة الرمز التي لا تتأتى غلا من التجربة الشعرية التي يبلورها باستمرار، وهو مايشي بوجود وحدة غائبة وضائعة ، لذلك تتعدد الصور التراجيدية عبر بناء شبكة ترميزية يعبر الشاعر من خلالها عن شحناته الوجدانية بحيل تخييلية تؤنسن الوجدان بالواقع المادي أو المتخيل بواسطة تفاصيل العالم الخارجي واللغة تبعا للوعي المتبلور في الذاكرة ، الوعي الذي ينوس بين الممكن في الوجدان والكائن في الواقع ، بين المحلوم به والغائب : \”السنين التي طوحت عمرك ريشة / في مهب البعيد / تعيدك ثانية لفراغ البداية / ترجعين الى ليل وحدتك المعدني، /دروب الحرير التي بسط الحلم أهدابها / في ربيع رؤاك… تضيق بخطوك هذا المساء \”ص46 – 47.
على سبيل الختم :
إن التجربة الشعرية الحازمية في هذا الديوان تعد متميزة على صعيد الديوان الشعري السعودي الحديث ، فهي تتغيا الاكتمال ، خاصة وان الحازمي في \” الغزالة تشرب صورتها\” أخرج الشعر السعودي من نمطيته إلى حقل الخلق والابتكار ، وعانق رياح الحداثة الشعرية بامتياز ،لأن لغته الشعرية كانت تعبيرية في بنائها ، انزياحية في تركيبها ، تخييلية في أسلوبها ووسائل إبلاغها ، لذلك لمسنا صدق نصوصه من خلال تجليات لغتها وانعكاسها على قارئها عبر التماثل الشخصي .ويبقى ديوان \”الغزالة..\” طافحا بشعرية تفرض نفسها لكونها تصغي إلى أنانا الجوانية المعبرة عن الطبقات الاركيولوجية لروحنا، وما هذه المقاربة المتواضعة سوى محاولة لإثارة بعض الأسئلة الملحة في هذا الديوان، وللشعر أن يتجلى في حضور فضاءاته ./ .
(1) على الحازمي : \” الغزالة تشرب صورتها\” ،المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب/ بيروت، لبنان،ط1 ،2004.وجميع الإحالات الموسومة ب ص ورقم ما من هذا المرجع.
(2) د محمد الشدادي:\” القصيدة الصوفية في المغرب \”، العلم الثقافي ،س36 بتاريخ 2 أبريل 2005 ، ص :11
(3) د محمد الديهاجي :\” بلاغة الصمت أم مضايق الشعر \”، فكر وإبداع الملحق الثقافي للاتحاد الاشتراكي ،عدد7916 ، بتاريخ22أبريل2005، ص :9.
(4) د سعيد حسن بحيري :\” علم النص (المفاهيم والاتجاهات)\”، مكتبة الانجلو المصرية ،ط1 ، 1993 ،ص :99.
إبراهيم القهوايجي