السجينة : مليكة أوفقير.

مازلت أذكر تلك الأمسية من يوم 26 تشرين الثاني 1986 …
كانت ليلة رائعة ، و القمر يسطع في سماء صافية دون غيوم …
و خلال الليل قامت أمي بقطع أوردة يديها بالمقص الصغير …
قبل أن تقوم بهذا العمل اليائس …
 كررت لي القول أنها تحبني و عهدت إليَّ بأخوتي و أخواتي …
لم تصدر عني في البداية أيّة ردة فعل …
فإذا اختارت الموت فهذا حقها المطلق …
لكن القلق تملّكني شيئاً فشيئاً …
نحو الساعة الرابعة صباحاً ناديت (عبداللطيف) …
و سألته عن حال أمي وهل ماتت أو انها ما تزال على قيد الحياة …
أجابني عبر الجدار أن قلبها يخفق بشكل ضعيف …
قفزت إلى قبضة الباب المصفح …
و تعلّقت بالشبك في أعلاه و أنا أجأر بالصراخ : النجدة ، النجدة …
أمي تموت … و سنموت كلنا …
ذهب صراخي عبثاً و ما من مُجيب …
و أستمعت إلى صدى صوتي في الظلام …
و خجلت لمذلَّة استعطافي لهم كي ينقذوا أمي …
أخيراً اجتاحت رأسي فكرة …
 هدتتهم بأنني سأفجر كل شيء بغاز البوتان إن لم يتحركوا …
ذعروا و جاؤوا إلى زنزانة أمي و سمعت جعجعة (بورّو) …
ثم خرجوا دون أن يقدموا إي عون …
شرحت لـ(عبداللطيف) كيف يمكنه إعداد ضماد ضاغط …
بواسطة قطع من ملاءة السرير لإيقاف النزيف …
كانت أمي قد استعادت تنفسها لكنها فقدت كثيراً من الدم …
ستنجو … أما نحن فسنوت فقد انتابتنا كلنا الهلوسة …
و تحول القنوط المتراكم خلال الأعوام الأربعة عشر …
و ما انتابنا من انهيار جسمي و معنوي …
إلى هستيريا جماعية يستحيل التحكم بها …
تجنبنا حتى ذلك الوقت التمرد …
أما في تلك الليلة فقد غدونا مجانين …
كان القنوط ظاهراً في الزنزانات كلها … فـ(عبداللطيف) يراقب تطور حالة أمي …
و (عاشورا) و (حليمة) تنتحبان و هما تنتفان شعر رأسيهما …
و نحن نعيش مأساة نفسية لا معالم لها …
و لا مفاهيم تعيدنا إلى الواقع …
كانت تلك (( ليلة الحراب الطويلة )) كما سميناها …
و هي أسوأ ليلة في وجودنا كله … إنها نهاية العالم …
و كل شيء فيها غدى ممكناً أن يقتل أحدنا إخاه أو أخته أو أن يقتل نفسه …
أو أن يفجر السجن بغاز البوتان …
أرادت كل واحدة منا أن تكون السباقة إلى الموت …
و أجرينا القرعة فكانت (سكينة) الرابحة …
تمدّدت على سريرها في غاية الإرتياح …
و أنا جالسة قبالتها أحاول قطع عروق يديها …
بطرف علبة ساردين جارح و بإبرة حياكة …
غرزت الطرف المدبب بأقوى ما أستطيع و انهلت تجريحاً على معصميها …
و أنا أنتحب … تجلى الألم على قسمات سكينة …
لكنها كانت تبتسم لي في نفس الوقت …
و بدا لي أن هذه الغرزات تسري في جسدي …
و أخيراً نجحت في ثقب أحد الأوردة و انبثق الدم …
تحملت سكينة الألم بوجه يتألق وَجداً و غابت عن الوعي …
و كدت بدوري أفقد رشدي …
رحتُ و (ماريا) و (مريم) نتبادل النظرات و خيل إلينا أن سكينة ماتت …
جالت الدموع في أعيننا دون أن تتساقط …
و تملكنا القنوط … لكننا تعزّينا لأن رحلة اعذاب أختنا قد انتهت …
استعادت (سكينة) وعيها بعد نحو ربع ساعة و كانت ترتعش بكل جوارحها …
و عندما أدركت أنها لم تمت و أنها حية توجهتَ إليَّ بغيظ قائلة :
    – أنتِ لا تريدين قتلي … أنتِ لا تريدين أن تريني ميتة .
    – بلى يا (سكينة) أردت إنهاء رحلة عذابك بالموت …
و حاولت ما استطعت … و فشلت … انظري كل هذه الدماء النازفة ! .
جرت مناقشة فيما بيننا …
هل يجب وضع ضماد لها مُرقيء للدم ؟ …
كنا منهكين … نكاد نفقد الوعي و غلبنا الإعياء فاستسلمنا في أمكنتنا للرقاد …
هذه المحاولات الخائبة وسمت أرواحنا حتى الأعماق …
فمقاربة الموت لا تقل هولاً عن الموت نفسه …
في تلك الليلة انتقلنا كلنا إلى الطرف الآخر …
و لا أعلم أية قوة … و أية غريزة … و أية طاقة قذفت بنا إلى جانب الحياة . 

                                                                              مليكة أوفقير

خاص بموقع إبحار بلا مركب
إنتقاء : الفيصل، ع س

=============
من رواية السجينة لمليكة أوفقير
رواية السجينة تقع في 328 صفحة
الناشر ورد للطباعة و النشر و التوزيع 
الطبعة الأولى 2000