(1)
صباح الخير … يا حلوة …
صباح الخير … يا قديستي الحلوة …
مضى عامان يا أمي …
على الولد الذي أبحر …
برحلته الخرافية …
وخبأ في حقائبه …
صباح بلاده الأخضر
و أنجمها ، و أنهرها، و كل شقيقها الأحمر …
وخبأ في ملابسه …
طرابينا من النعناع والزعتر …
وليلكة دمشقية .
(2)
أنا وحدي …
دخان سجائري يضجر …
و مني مقعدي يضجر …
و أحزاني عصافير تفتش بعد عن بيدر …
عرفت نساء أوروبا …
عرفت عواطف الإسمنت والخشب
عرفت حضارة التعب …
طفت الهند ، طفت السند …
و طفت العالم الأصفر …
و لم أعثر …
على امرأة تمشط شعري الأشقر …
و تحمل في حقيبتها إلىَّ عرائس السكر …
و تكسوني إذا أعرى …
و تنشلني إذا أعثر …
أيا أمي … أنا الولد الذي أبحر …
و لا زالت بخاطره …
تعيش عروسة السكر …
فكيف … كيف … يا أمي …
غدوت أباً … و لم أكبر ؟ .
(3)
صباح الخير من مدريد …
ما أخبارها الفُلة ؟ …
بها أوصيك يا أماه …
تلك الطفلة الطفلة …
فقد كانت أحب حبيبة لأبي …
يدللها كطفلته …
و يدعوها إلى فنجان قهوته…
و يسقيها ، و يطعمها …
و يغمرها برحمته …
و مات أبي …
و لا زالت تعيش بحلم عودته …
و تبحث عنه في أرجاء غرفته …
و تسأل عن عباءته …
و تسأل عن جريدته …
و تسأل حين يأتي الصيف عن فيروز عينيه …
لتنثر فوق كفيه …
دنانيرا من الذهب .
(4)
سلامات … سلامات …
إلى بيت سقانا الحب و الرحمة …
إلى أزهارك البيضاء …
فرحة ” ساحة النجمة ” …
إلى تختي ، إلى كتبي …
إلى أطفال حارتنا …
و حيطان ملأناها بفوضى من كتابتنا ….
إلى قطط كسولات …
تنام علي مشارقنا …
و ليلكة معرشة على شباك جارتنا …
مضى عامان … يا أمي …
و وجه دمشق …
عصفور يخربش في جوانحنا
يعض على ستائرنا …
و ينقرنا ، برفق ، من أصابعنا …
مضى عامان يا أمي …
و ليل دمشق … فل دمشق …
دور دمشق …
تسكن في خواطرنا …
مآذنها … تضيء على مراكبنا …
كأن مآذن الأموي قد زرعت بداخلنا …
كأن مشاتل التفاح تعبق في ضمائرنا …
كأن الضوء و الأحجار …
جاءت كلها معنا .
(5)
أتى أيلول أماه …
وجاء الحزن يحمل لي هداياه …
و يترك عند نافذتي …
مدامعه وشكواه …
أتى أيلول أين دمشق ؟ …
أين أبي وعيناه ؟ …
و أين حرير نظرته ، و أين عبير قهوته …
سقى الرحمن مثواه …
و أين رحاب منزلنا الكبير …
و أين نعماه ؟ …
و أين مدراج الشمشير …
تضحك في زواياه ؟ …
و أين طفولتي فيه …
أجرجر ذيل قطته …
و آكل من عريشته …
و أقطف من ( بنفشاه )…
دمشق … دمشق …
يا شعرا …
على حدقات أعيننا كتبناه …
و يا طفلا جميلاً …
من ضفائره صلبناه …
جثونا عند ركبته …
و ذبنا في محبته …
إلى أن في محبتنا قتلناه .
—*—
نزار قباني
محبته
تسكن في خواطرنا
بارك الله فيك على هذا المنقول ارائع…..