خمس رسائل إلى أمي.

(1)
صباح الخير … يا حلوة …
صباح الخير … يا قديستي الحلوة …
مضى عامان يا أمي …
على الولد الذي أبحر …
برحلته الخرافية …
وخبأ في حقائبه …
صباح بلاده الأخضر
و أنجمها ، و أنهرها، و كل شقيقها الأحمر …
وخبأ في ملابسه …
طرابينا من النعناع والزعتر …
وليلكة دمشقية .
(2)
أنا وحدي …
دخان سجائري يضجر …
و مني مقعدي يضجر …
و أحزاني عصافير تفتش بعد عن بيدر …
عرفت نساء أوروبا …
عرفت عواطف الإسمنت والخشب
عرفت حضارة التعب …
طفت الهند ، طفت السند …
و طفت العالم الأصفر …
و لم أعثر …
على امرأة تمشط شعري الأشقر …
و تحمل في حقيبتها إلىَّ عرائس السكر …
و تكسوني إذا أعرى …
و تنشلني إذا أعثر …
أيا أمي … أنا الولد الذي أبحر …
و لا زالت بخاطره …
تعيش عروسة السكر …
فكيف … كيف … يا أمي …
غدوت أباً … و لم أكبر ؟ .
(3)
صباح الخير من مدريد …
ما أخبارها الفُلة ؟ …
بها أوصيك يا أماه …
تلك الطفلة الطفلة …
فقد كانت أحب حبيبة لأبي …
يدللها كطفلته …
و يدعوها إلى فنجان قهوته…
و يسقيها ، و يطعمها …
و يغمرها برحمته …
و مات أبي …
و لا زالت تعيش بحلم عودته …
و تبحث عنه في أرجاء غرفته …
و تسأل عن عباءته …
و تسأل عن جريدته …
و تسأل حين يأتي الصيف عن فيروز عينيه …
لتنثر فوق كفيه …
دنانيرا من الذهب .
(4)
سلامات … سلامات …
إلى بيت سقانا الحب و الرحمة …
إلى أزهارك البيضاء …
فرحة ” ساحة النجمة ” …
إلى تختي ، إلى كتبي …
إلى أطفال حارتنا …
و حيطان ملأناها بفوضى من كتابتنا ….
إلى قطط كسولات …
تنام علي مشارقنا …
و ليلكة معرشة على شباك جارتنا …
مضى عامان … يا أمي …
و وجه دمشق …
عصفور يخربش في جوانحنا
يعض على ستائرنا …
و ينقرنا ، برفق ، من أصابعنا …
مضى عامان يا أمي …
و ليل دمشق … فل دمشق …
دور دمشق …
تسكن في خواطرنا …
مآذنها … تضيء على مراكبنا …
كأن مآذن الأموي قد زرعت بداخلنا …
كأن مشاتل التفاح تعبق في ضمائرنا …
كأن الضوء و الأحجار …
جاءت كلها معنا .
(5)
أتى أيلول أماه …
وجاء الحزن يحمل لي هداياه …
و يترك عند نافذتي …
مدامعه وشكواه …
أتى أيلول أين دمشق ؟ …
أين أبي وعيناه ؟ …
و أين حرير نظرته ، و أين عبير قهوته …
سقى الرحمن مثواه …
و أين رحاب منزلنا الكبير …
و أين نعماه ؟ …
و أين مدراج الشمشير …
تضحك في زواياه ؟ …
و أين طفولتي فيه …
أجرجر ذيل قطته …
و آكل من عريشته …
و أقطف من ( بنفشاه )…
دمشق … دمشق …
يا شعرا …
على حدقات أعيننا كتبناه …
و يا طفلا جميلاً …
من ضفائره صلبناه …
جثونا عند ركبته …
و ذبنا في محبته …
إلى أن في محبتنا قتلناه .
—*—
نزار قباني

1 تعليق في “خمس رسائل إلى أمي.”



  1. عيد

    محبته

    تسكن في خواطرنا

    بارك الله فيك على هذا المنقول ارائع…..


لكتابة رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *