الرقصة الآخيرة
تأليف : أحمد عمر محمد عمر
أجلسها على كرسى وجلس هو فى الكرسى المقابل لها ، ولا تفصل بينهما سوى الطاولة الصغيرة . وصفق للنادل وطلب منه (2 برتقال ) .
لم يجدا موضوعاً فى البداية يتحدثا فيه ، رغم ان قلوبهما كانت تتحدث بالكثير ، وعيونهما تكاد تنطق .
فمنذ رآها منذ عدة ايام .. وعيونهما تنطق بالكثير ؛ ذلك اليوم .. حينما اتى اليها لتعلمه الرقص ، فقد كان قد قرر الالتحاق بالسينما ، وأول دور اعطى له ، كان فيه مشهد رقص ، وقرر ان لايضيع الدور ، وان يجد من يعلمه الرقص؛ فدلوه عليها ..فقد كانت ماهرة جداً فى الرقص ، كما كانت جميلة جداً ..فنشأ بينهما الاعجاب ، فهزت كيانه من اول نظرة ؛ وشلت قلبه وعقله .. الى درجة أنه لم يجد موضوعاً يتحدث فيه الان معها .. الى ان استقل جمال المكان حوله ، فقال :
– المكان جميل ! اليس كذلك ؟
فردت عليه بصوتها الناعم :
– نعم .. وخاصة انه مطل على النيل .
– أجمل شئ فى هذه الحياة هو الهدؤ والسكون .
فقالت له :
– نعم ، فماذا يطلب الانسان فى هذه الدنيا سوى السكون والسعادة .. والاكل والشرب ، ورفيق العمر ، والذرية الصالحة .
– نعم .. وخاصة مسألة رفيق العمر – او المحبوب – لأن الحب هو الاساس الذى تقوم عليه الحياة الزوجية .
– الحب هو الاساس الذى تقوم عليه الدنيا كلها .
– نعم .. الحب جميل ! وخاصةً لمن يعيشون فيه .
ثم اردف وهو يهمس لها :
– وانا واحد من هؤلا الناس .. الذين يعيشون فى الحب .
– وفى الحال قفز قلبها ، وقالت بصوت هامس :
– ياترى .. من هى سعيدة الحظ ؟
قال لها مبتسماًبسخرية ، ومحطماً جميع آمالها :
– انى اعيش فى حب .. اخوانى .. وامى .. و
وقبل ان يتم كلامه ، كانت قد قرصته فى يده بسبب دعابته التى اغاظتها ، اما هو فكان يضحك بصوت عالى . وبعد قليل اردف بجدية :
– لا .. انى لا امزح .. انى متيم بحب فتاة سبت عقلى وقلبى ، فلا اصحو ولا انام ، الا وصورتها فى خيالى ؛ فهى طعامى وشرابى وزادى فى الحياة .. وبلسمى الذى يشفى جراحى .
كان يقول هذه الكلمات ، وهو ينظر الى عينيها بقوة وبنشوة فى نفس الوقت .
اما هى ، فقد تضرج وجهها بحمرة الخجل ، كانت تعرف انه يتكلم عنها .. ولكنها تريده ان يقولها بصراحة .
فقالت له بجرأة متناهية ، متغلبة على خجلها :
– ومن هى تلك المرأة التى اوقعت فى حبها اوسم واجمل شخص رأيته فى حياتى ؟
فقال لها بنفس الجرأة :
– انها امراة طويلة .. لها جسد جميل وشعر اسود كالليل ، وعينيها الواسعتين كلون شعرها ..
وقبل ان يتم كلامه .. قاطعهما النادل :
– تفضل يافندم العصير .. تفضلى ياهانم !
وكان يضع الاكواب على المائدة ، وكان كل منهما خجل مما قاله للاخر ، وقرر الثنان فى نفسهما تغيير الموضوع ؛ قال النادل :
– اى طلبات اخرى ؟
– لا .. شكراً .
كانت تضع السكر فى العصير من السكرية التى أحضرها النادل معه . فقالت له :
– هل اضع لك سكراً ؟
فقال لها مستعيداً جرأته :
– انى لا استطعم سكر الدنيا كلها .. فقط ذوبى لى انت فى هذا البرتقال ، فيصبح عسلاً !
– ازداد خجلها كثيراً .. فسكتت لمدة ، وقررت تغيير مجرى الحديث قائلة :
– لم تخبرنى حتى الان .. ماذا تعمل ؟
ارتبك لهذا السؤال ، واجابها متلعثماً :
– خير الله واسع !
– اذا كنت عاطل فلا تخجل .. قل !
– الحقيقة انى اعمل ..
– تعمل ماذا ؟
– تستطيعين القول انها اعمال خاصة .
– اعمال حرة تعنى ؟
فاجابها بسرعة مستدركاً :
– بالضبط .
ثم سألها عن عملها ، ظاناً ان الرقص هواية ليس الا، فاخبرته انها خريجة موسيقى ومسرح ، وانها راقصة ماهرة – خاصة فى الباليه – فعملت فى احدى الفرق الاستعراضية .. ثم اشتهرت ، وقررت امتهان الرقص .
وتكلموا كثيرا عن الفن والرقص ، ومواضيع اخرى .. حتى انهم تتطرقوا للسياسة .
كانت اصوات الموسيقى القادمة من صالة الرقص تداعب آ ذانهم بنغماتها العذبة ، فقال لها :
– ما رأيك فى هذه الموسيقى ؟
– انها رائعة ! .. لابد من وانها احدى روائع ( بتهوفن ) .
– هل سبق ان رقصت مقطوعة لبتهوفن ؟
– قليلاً جداً .. مرتين او ثلاثة !
– حسناً .. سوف تصير اربعة .. هل لى برقصة معك ؟
فابتسمت واجابت على الفور :
– بالطبع .. لا يوجد مانع .
ودخلوا وسط الراقصين ، وامسك بخصرها ويدها .. وامسكت به ؛ وبدأوا يتمايلون مع الموسيقى .
كان كل منهم ينظر الى عينى الاخر ، نظرات قوية ، فيها كل شئ .. احساس الشوق والوجد ، والحنان والحب .. كانت عيناهما تحمل احاسيس غريبة .
قالت له :
– ها أنت ذا بارع فى الرقص !
– الفضل يعود لك ولدروسك
وبعد قليل كان كل منهما يضع رأسه على كتف الاخر ، ويتمايلون ببطء على انغام الموسيقى الهادئة .
فعادت لها جرأتها ، وهمست فى أذنه :
– الن تتمم لى وصف تلك الفتاة ؟
-اى فتاة ؟
– الفتاة التى وقعت فى عشقها !
– آه .. ذات الشعر الاسود ؟
– نعم .. وماذا بعد الشعر الاسود ؟
– عيناها سوداوان .
– لقد ذكرت هذا ، ماذا بعد ؟
قال لها وهو يدارى ابتسامته ، لاعباً بأعصابها :
– وماذا يهمك انت فى هذا ؟!
قالت له وهى تحس بالخجل :
– يجب ان اهتم بمن يحبها صديقى !
– حسناً .. ان اول حرف فى اسمها " س " .
وكان اسمها يبدأ بالسين ، فكادت تطير من الفرحة ، وقالت له :
– ارحمنى .. قل اسمها كاملاً !
– حسناً ، ان اسمها .. ( سندريللا أحلامى ) !
قالها وضحك ضحكة مجلجلة فى أذنها ، اما هى فقد اغتاظت ، وقرصته مرة اخرى على يده وهى تبتسم لدعابته .
وبعد قليل رفع رأسه عن كتفها ، وقال لها فجأة :
– انى احبك انت ياسندريلا احلامى ..!!!
لم تصدق نفسها .. اخيراً قالها . ولكنها ارادته ان يكررها فى اذنها .
فقالت بصوت متهدج ملئ بالخجل :
– ماذا قلت ؟!
فقال لها وهو ينظر الى عينيها بعينيه الثاقبتين :
– ما سمعتيه ! .. احبك .. احبك .. احبك بعنف يا ملاكى ، احبك ولن اكف عن حبك ، وحتى وانا فى قبرى .
وتبادل معها قبلة طويلة ، ثم وضعكل منهما رأسه على كتف الاخر.. وواصلا الرقص..
كانت السمفونية طويلة.. كان الناس يرقصون قليلاً ويجلسون ، ويأتى غيرهم ليرقص ثم يجلس .. الا اولائك العاشقين ، الذين اعترفا قبل قليل بحب كل منهما للاخر .
قالت له وقد احست بالتعب :
– الم تتعب ؟ .. هيا نجلس !
– الرقص معك لا يتعبنى، بل يريحنى ..
ثم أردف :
– اصبرى قليلاً فقط .
ووضع راسه على كتفها مرة اخرى ، وأبطأوا فى الرقص ، حتى انهم توقفوا ..
ولكنها وقفت لتعبها ؛ اما هو .. عندما تركت كتفه ، كان يتصبب عرقاً .. وتحمر عينيه .. فقلقت عليه ، فلا يمكن ان يكون هذا مجرد تعب ..
فسألته :
– ماذا بك ؟.. هل تشعر بشئ ؟ .. لقد اخبرتك انه يجب علينا التوقف عن الرقص !
قال لها بصوت ضعيف وهو يترنح ترنح السكارى :
– قلت لك .. ان الرقص معك لا يتعبنى، بل يريحنى ..
ثم فجاة سقط على الارض .. وسط الراقصين .
بعد ان فحصه الطبيب ، سد باب حجرته فى المستشفى ، وخرج اليها وسألها :
– هل انت زوجته ؟
فارتبكت للسؤال ، ثم أجابت
– لا ، صديقته .. ماذا به يادكتور ؟
قال لها بوجه كئيب :
– لابد من انه قد تناول جرعة زائدة !
– أى جرعة !! .. لا أفهم !
قال لها داهشاً :
– اذاً أنت لا تعلمين !؟
– اعلم ماذا ؟؟
فقال لها ببطء :
– إن صديقك .. يتناول المخدرات !
فصعقت لجملته الاخيرة ، وصرخت فى وجهه :
– م .. ماذا تقول ايها السافل !!؟
قال لها بسرعة :
– حسناً .. هذا الشبل من ذاك الاسد .
– لا افهم !
– الا تعرفين ابيه ؟
– لا .
– إن والده شخصية عامة .. اى شخص يعرفه ، ان صوره اسبوعياً فى صفحة الحوادث على اى جريدة ؛ إنه أكبر تاجر مخدرات فى البلاد .. كما أنه أعظم زير نساء شهده التاريخ .اما ابنه .. على حسب فحصى له الان ، من اكبر مدمنى المخدرات ! .
– تملكها الرعب والمفاجأة فى وقت واحد ، فانفجرت صراخاً وبكاءً ، وجرت فى الحال واقتحمت غرفته – كأحد ثيران مصارعى الروديو الإسبانى ! – واصبحت تصرخ فيه وتلطمه فى وجهه :
– استيقظ .. استيقظ ياجبان !!
وكان شبه غافياً فى ذلك الوقت ، فرد عليها بعبارة واحدة ، وبصوت واهى كالمحتضرين :
– انى .. آسف ياحبيبتى !
لقد قال لها كلمة حبيبتى اخيراً .. ولكن بعد ماذا ؟ .. بعد أن ايقنت انه مجرم .. ياللاقدار!
ثم فجأةً بدأ يتألم ويصرخ ويتقلب بشكل مرعب .. فقلقت لهذا .. وصرخت فى الاطباء:
– ماذا به .. ماذا تنتظرون ؟ .. إفحصوه .. انقذوه !
ثم اردفت وهى تبكى :
-انقذوا حبيبى!
واصبحت تبكى قرب سريره ، والاطباء يأتون ويذهبون ، ويركضون .. حتى صاروا فى الغرفة خمساً.. ولم يستطيعوا فعل شئ ، فقد كان قلبه يدق ببطء ، عكس قلبها الذى كان يدق سريعاً .. خوفاً على حبيبها .. الذى غدر بها !
لم يستطع الاطباء فعل شئ ..
فتوقف القلب .. وجمد الجسد ..
وتقدم أحد الاطباء ببطء ، ومد يده .. وأغمض عينى الجثة ، وغطها بملاءة السرير .
كانت تنظر اليه وهى فاغرة فاهها غير مصدقة . ولكن بعد قليل ذرفت عينيها الدموع ، كما ذرفت عليها الدنيا المآسى فى هذا اليوم المشؤوم .
وحضنت الجسد المسجى تحت الملاءة ، كما لم تحضنه من قبل .. وبدأت تبكى بشدة .
** ** ** ** **
خرجت من غرفته حيث لاقاها الطبيب ، وقال :
– ان قلبه لم يستحمل هذه السموم ! .. لقد قلت لك .. لقد اخذ جرعة كبيرة اليوم وقد اودت بحياته ..
لم يتمم كلامه ، لانها كانت قد خرجت من المستشفى .
ياللاقدار !! .. قبل قليل كانت تراقص وتقبل اكبر تجار ومدمنى المخدرات فى البلاد .. شعورها متضارب .. هل فعلاً كان يحبها ؟
هى لا تدرى .. لقد تركها فى حيرة ، ولكن كان يخيفها شئ .. إن كل ماقاله لها ربما كان كذباً ! ، فقد كان تحت تأثير المخدرات ؛ أخيراً عرفت سبب دعاباته الكثيرة وخفة دمه فى هذه الليلة ، وجرأته المتناهية . نعم ، لقد كان تحت تأثير المخدر . ولكنه فى اخر لحظة ، كان يرقص معها رغم تعبه .. بل رغم احتضاره .. كان يشعر بالالم ويحس بأنه سيسقط مغمياً عليه ، ولكنه اصر على مواصلة الرقص معها ، فماذا يسمى هذا سوى .. الحب .
كان هذا فكرها المضطرب ، وهى تسير بقدميها على رصيف الشارع الخالى فى ذلك الوقت .. وهى قادمة من مستشفى الشؤم .
وفى الطريق مرت امام المطعم الليلى ، الذى شهد كلمات حبهما قبل قليل ؛ وبحركة لا ارادية .. وجدت نفسها تدخل . كان النادل ومعه خادمين يقومان ( بتشتطيب المكان ) وتنظيمه ليوم غدٍ . فدخلت الى الصالة التى كانت ترقص فيها .. مع الحبيب المجرم .
جلست على الارض .. فى المنطقة التى رقصت فيها معه ، نفس المنطقة التى سقط فيها مغمياً عليه .. وسقط فيها الحب .
كانت تحس بدوى كلماته يتردد فى آذانها ، وتحس بأن روحه ما زالت فى المكان ؛ وبعد قليل انفجرت فى البكاء ، وبكت طويلاً كما لم تبكى من قبل . وظلت تبكى وتبكى الى أن احست بالتعب ، فنهضت وخرجت .
** ** ** **
وفى تلك الليلة .. قررت تغيير مجرى حياتها كلياً .. سوف تترك الرقص .. نعم سوف تتركه ، ان لها شهادة من كلية الموسيقى والمسرح ، اذاً فلتستفيد منها ولن ترقص ابداً.
أحست انها عند كل رقصة سوف تتذكره ، وتتذكر مآساتها معه .
كانت تحس ان الرقص قد جلب لها الشؤم .. فآخر رقصة كانت معه ، ولكم كرهت واحبت فى نفس الوقت .. تلك الرقصة الأخيرة .
( النهاية )
أحمد عمر
415
7
1 Guest(s)