هكذا علمتني الحياة :
مصطفى السباعي – الفصل السادس.

هكذا علمتني الحياة
مصطفى السباعي
القسم السادس 
 شيطان يتظلم :

 

  • تعرض شيطان اسمه (أخصَرَ عَشء) يوماً لمتصوف جاهل يتعاطى الوعظ فقال له :
    لماذا لا تتعلم الدين ، فتنشر سيرة العلماء، و تنشر في الناس الحلال و الحرام ، و تفتيهم في شؤون دينهم عن هدى و بصيرة ؟.
     قال المتصوف : اغرب عليك لعنة الله أتظن أني أخدع بك لو كان من طبيعتك النصح لما كنت شيطاناً ، إنما تريد بدعوتي للعلم أن أنصرف عن ذكر الله  … لا أفعل .
  • قال الشيطان : فهل لك في كلمة حق عند سلطان جائر فيكون لك أجر المجاهدين ؟ .
     قال المتصوف : اخسأ عليك غضب الله  أتريد أن تعرِّضني لعدواتهم فأسجن و أحارب فيحرم الناس من وعظي و إرشادي ؟.
  • قال الشيطان : إمَّا لا هذه و لا تلك ، فلماذا لا تجمع المال لتحفظ به كرامتك ، و تدَّخره لفقير محتاج ، أو مريد منقطع ، أو جامع يبنى ، أو خير تسهم فيه ؟ .
    قال المتصوف متلمِّظاً : أما هذه فنعم ، قاتلك الله! فأين أجد المال ؟.
  • قال الشيطان : ما رأيت والله أحمق منك  ألا ترى إلى مريديك ، تحفظ لهم آخرتهم أفلا يحفظون لك دنياك؟ وتعمر لهم قلوبهم أفلا يعمرون لك جيبك ؟ و تحيي لهم أرواحهم أفلا يحيون لك بيتك ؟ .
    و مدّ المتصوف الجاهل يده إلى جيوب مريديه فأفرغها في جيبه ، و كانت من الكثرة بحيث تفيض عن حاجة يومه و غده و كان من الكذب في دينه بحيث لا يفكر في إنفاقها في سبيل الله ، فحار ماذا يصنع بها ، فاستشار الشيطان فقال له:
     إنك إن أبقيت المال في خزانتك لم تأمن عليه من لص ينتهبه ، أو جائحة تذهب به ، أو ولد صالح يلطشه (كلمة عامية شامية تعني أخذ الشيء بوقاحة ) فأين أنت من شراء الأراضي و المزارع ؟ .
     فقال المتصوف : قاتلك الله لقد نصحتني . و اقتنى الضياع واحدة بعد الأخرى .
  • لكن أمره انكشف بين الناس ، و ماله المجموع من السحت و النصب (كلمة عامية شامية تعني الاحتيال في أخذ المال) و التسول ما زال يتزايد يوماً بعد يوم ، فلجأ إلى صديقه الشيطان يستشيره ، فقال له :
    و أين أنت من شراء السيارات ، و بناء الدور ، و عمارة القصور ؟.
    قال المتصوف : و لكني أخشى أن أفتضح أيضاً.
    قال الشيطان : لا أصلحك الله ، أتعجز عن تسجيلها باسم زوجتك و أولادك و هم كثيرون؟. و فعل المتصوف ذلك .
  •  غير أن المال ما زال يتدفق على جيب الشيخ الجاهل الواعظ ، و أخذ يفتش عن أستاذه الشيطان ليستشيره فيما يفعل . و لكن أستاذه كان قد غاظه من تلميذه مزاحمته له في مهنة الخداع و وسوسة الشر ، فقرر الدعوة إلى مؤتمر غير عادي للشياطين ليرفع إليهم أمر هذا التلميذ المزاحم .
  • انعقد المؤتمر برئاسة إبليس ، و وقف الشيطان يشرح قصته و يقول:
    لقد كان المدعى عليه إنساناً جاهلاً فمسخته ببراعتي و كيدي إلى شيطان ذكي ، و كنت أنتظر منه أن يعرف لي فضلي فلا يزاحمني في (منطقتي) و لكنه أخذ يزاحمني مزاحمة خشيت منها على زبائني من التحول جميعهم إليه ، فقد أخذ يسلك لإغوائهم من الطرق ما لا أعرف ، فاجتذب من الربائن ما لم أكن أطمع في تعاملهم معي.
    لقد كنت أغوي الناس بالخمرة و المرأة و اللذة و القمار و الثروة و غير ذلك ، فلم يستمع إليَّ من بغِّضت إليه هذه اللذائذ كلها ، أما هذا التلميذ العاق فقد أخذ يخدع الناس باسم الدين و الزهد و الفضيلة حتى أغواهم و أوقعهم في الجهل والخرافة و محاربة الدين و علمائه ، و أنتم تعلمون يا حضرات الزملاء أن ميزة زبائننا ، الغفلة مع شيء من الذكاء ، فما يكاد الواحد منهم يتعامل معنا قليلاً حتى يهديه ذكاؤه إلى خبثنا و سوء طريقتنا فيتركنا ، أما هذا التلميذ المخادع فقد استطاع أن يخبل عقول زبائنه بالترَّهات و الخرافات ليتمكن بذلك من استثمارهم فترة أطول مما نستثمر بها زبائننا .
    فأنا أسألكم باسم حرمة المهنة , و بحق غضب الله علينا أن تفصلوا في أمره بما توحي به ضمائركم النجسة .
    و نهض الشيطان التلميذ ليدافع عن نفسه فقال:
    يا حضرات الزملاء الملعونين
     إني و غضب الله عليَّ و عليكم ما خنت هذه المهنة بعد أن شرّفني رئيسنا إبليس بالدخول إلى (حظيرة دنسه) و ما تنكرت يوماً لفضل أستاذي (أخْصَرَ عَشْ) عليَّ ، و لكني و جدته بعد التجربة قليل الحيلة ضعيف الذكاء ، و تعلمون أن أحدنا كلما كان أبرع في اقتناص الفريسة و الفرصة كان أقرب إلى نفس رئيسنا إبليس أخزانا الله و إياه ، و لقد استطعت بوسائل الخداع التي أُلْهِمْتُهَا من (حظيرة الدنس) أن أجتذب من الزبائن في محيط أستاذي في سنوات ، ما لم يستطع أن يجتذبه في مئات السنين .
    إننا حضرات الزملاء الملعونين
    في عصر استيقظت فيه روح الدين و الهداية في نفوس الناس ، فيجب أن نطوِّر و سائل الضلال و الغواية بما يتفق مع هذا التطوُّر الخطير ، و إذا ظللنا على أساليبنا القديمة فسيخسر رئيسنا إبليس أخزانا الله و إياه عرشه و مملكته.
    و لا يخفى عليكم أن وسيلتي التي أتَّبعها نفرت كثيراً من الدين بما ألصقته به من خرافات و أباطيل، و ما اتبعته مع الناس من كذب و احتيال و تدجيل ، و كان من نتيجة ذلك أن تشكّك كثير من الناس بحقائق الدين الصافية و دعاته الصادقين و علمائه المخلصين ، مما جعلهم مهيّئين ليكونوا من فرائس أستاذي و زبائنه.
    كما أن هؤلاء جعلوا يصبّون اللعنات عليّ بدلاً من أستاذي كما كان الأمر من قبل .
    و من هنا ترون يا حضرات الزملاء الملعونين  أنني أستحق شكر أستاذي لو كان مخلصاً لمهنته ، لكن أنانيته و طمعه و استئثاره جعلته يستعديكم عليَّ ، و أخشى أن يكون أستاذي قد أصابته عدوى الهداية فقلَّت فيه روح الشيطنة وخبثها  فلم يعد يصلح للمهنة ، أما أنا فأظل أخاكم المخلص و زميلكم النجيب .
  • تداول المؤتمرون القضية من جميع نواحيها ، ثم أعلن إبليس قرار المؤتمر التالي:
    لما كان الثابت من وقائع الدعوى و باعتراف المدعي (أخصر عش) بأن المدّعى عليه قد أصبح بارعاً في مهنة الشيطنة خبيراً بأساليب الضلالة والإغواء .
    و لما كان الثابت من وقائع الدعوى و باعتراف المدعي أيضاً أن زبائننا قد تضاعفوا بفضل المدعى عليه أضعافاً مضاعفة عما كانوا عليه في عهد المدعي.
    و لما كانت المادة الأولى من دستورنا و هي التي تقول :
    ( كل من استطاع الإغواء والإضلال يعتبر شيطاناً ) تنطبق على المدعى عليه تماماً .
    و لما كانت المادة الخامسة من هذا الدستور قد نصَّت على الشروط المطلوبة من التلميذ لمنحه لقب ( أستاذ ) .
    و لما كانت روح الشر المتأصلة فينا تقتضينا أن نعمل جاهدين لنشر الضلالة و الفساد بين بني الإنسان و أن نفرح لذلك ونشجع عليه .
    لما كان من الثابت أن المدَّعى عليه قد استطاع بفضل وسائله المبتكرة المتطورة أن يزيد في عدد ضحايانا و أن ينشر نفوذنا انتشاراً واسعا ً.
    لهذا كله قرر المؤتمر :
    1- منح لقب (( أستاذ)) للمدعى عليه .
    2- تكريس أستاذيَّته في محفل الشيطان الأعظم .
    3- نقش اسمه في عداد شياطين الإنس الخالدين .

    حكماً نهائياً غير قابلٍ للإستئناف

                                                              التوقيع        
                                                   
رئيس المؤتمر : إبليس