رواية الحزام : أحمد أبو دهمان.

مدخل :
( من لا يعرف نسبه لا يرفع صوته )
هكذا علمتني القرية قبل كل شيء …
في باريس احتميت بقريتي …
أحملها كنار لا تنطفيء …
القي السلام بصوت مرتفع … و عندما اكتشف أنهم لا يسمعون …
ألقيت السلام على السلام بصوت منخفض ..
و كتبت ( الحزام ) لألقي السلام بالصوت الذي يمكن أن يسمعوه .

زوج زوجته :
( يا رب سِتْرك في الدنيا و الآخرة )
هكذا كانت تستقبل القرية نهارها و مسائها …
ما عدا حزام … سِرّ القرية و لغزها الكبير …
كان يدعو بعينيه و نحن نغُضُّ الطرف …
لأن فمه مملوءٌ عادة بالتمر و الزبيب …
– لست كالآخرين … قال لي حزام …
أنهم يعيشون يومهم و القرية ليست إلا محطة عبور بالنسبة لهم …
بينما يشكل الدعاء عقداً بيننا و بين الحياة …
يلزمنا بأن نترك أَثَراً في هذه الأرض …
حتى لو اقتصر ذلك على تقبيل شجرة …
هكذا بنى أجدادنا القرية …
كل حجر ، كل بئر ، كل قصيدة ، كل و رقة …
و كل خطوة تحمل أنفاسهم و عشقهم ، آمالهم و شقائهم …
انكساراتهم و انتصاراتهم …
أولئك الذين كانوا كل صباح يشيدون قريتهم …
و كأنْ ليس أمامهم إلا نهار واحد لتخليدها …
الرجل سكّين ، أليس كذلك ؟ …
كله سكّين نظراته ، أفعاله ، أقواله وحتى نومه …
يجب أن يكون حاداً كالسكّين …
سكّين الرجل هي قلبه و عقله ، حياته و موته …
في حين لا يمكن أن نلوم المرأة على شيء .
– سأكون السكّين التي تملأ عينيك يا حزام .

كان حزام يعرفني جيداً …
يعرف أنيّ قادر على اختراق دواخل الناس و ضمائرهم …
بمجرد النظر إليهم …
كنت أرى و أكتشف كلَّ شيء …
و في الوقت ذاته لم أكن أحتفظ بسرَّ …
لا من أسراري و لا من أسرار الآخرين …
حتى أولئك الذين ألتقي بهم لأول مرة …
يبوحون لي بأدقِّ أسرارهم و أكثرها حميميّة …
هل لأنّي لم أكن سراً لهم ؟ … ربما …
حتى حزام الذي كان يُسمّيني ( الفضيحة ) …
أسر إليَّ بأنه ضاعف كميّة التمر و الزبيب التي يأكلها …
منذ أن بدأت أجيد الكلام …

في حلم يقظة ، في صباح لا أنساه …
رأيت أهل القرية مجتمعين أمام بابنا الكبير …
يقرأون أسرارهم التي خصني بها كل منهم …
دونتها بدقة مدهشة و علقتها على الباب …
رأوا حقيقتهم معاً ، أخذوا يقبلون بعضهم بعضاً مع قليل من البكاء …
مساء ذلك اليوم ، دعانا شيخ القرية إلى منزله …
اجتمعنا لأول مرة حول وليمة ، الرجال و النساء و الأطفال …
رقص الشيخ و أبتسم حتى رأينا أسنانه التي كان يحرص على إخفائها …
تصرف بحرية مثيرة كما لو انه لم يعد شيخاً …
فجأة أعلن استقالته وهو يقول :
إن قرية بلا أسرار ليست في حاجة إلى شيخ .
في الغد …
كان القرويون يتبادلون ابتسامات لم نعرف لها مثيلاً …
تحولت الحياة في القرية إلى قصيدة و الناس لا يتكلمون إلا شعراً .

كنّا أربعة في البيت …
أمي التي أحب و أبي الذي يحُبُّنا و أختي ذاكرتي …
و أنا الشاعر كما كانوا يتوهمون …
علّمتني أمي الشعر …
و أبي علم أختي العزف …
أُسرة تشبه الحلم …
لم تكن تستهويني المدن ، يقول أبي أنها أقيمت لأهل التجارة و السياسة …
و أنه من أجل اختراق مدينة …
عليك أن تعرف محتويات حقائب النساء اللواتي يُقمن بها …
كان يقول :
( لكي تعرف امرأة بالفعل ، عليك أن تراها بدلاً من أن تنظر إليها ) .
كنتُ أغذي روحي برائحة أمي ، بنظراتها ، بجمالها …
كل أهل القرية يعرفون رائحتها و خبز يدها …

تذكرت الحكاية التي روتها أمي :
وصل رجل غريب إلى القرية ، كان للتو فقد زوجته …
بين ذراعيه طفلة في سن الرضاع …
عرضت عليه القرية مأوى و طعام …
و أبدت النساء استعدادهن لإرضاع الطفلة و احتضانها …
رفض هذه العروض الكريمة …
كان قد أقسم لزوجته لحظة الوفاة ألاّ يرعى هذه الطفلة سواه …
و ألاّ يقيم في بيت بعدها لأنّها كانت و ستظلُّ الأمَّ و البيت …
عاش الرجل في المسجد أغلب الوقت …
و ضلّ يحمل ابنته و يضمُّها إلى صدره ليلاً و نهاراً …
و بكاؤها يشقّ القلوب و السماء …
ثم خفت حِدّة البكاء … و أعتقد الناس أنها ربما ماتت …
لكنهم لاحظوا أنها بدأت تنمو و تخضرُّ مثل الرضّع الآخرين …
ذلك أن أباها استطاع إرضاعها بثدييه …
يومها آمن أهل القرية أن في مقدور أيّ أب أن يُصبح أُماً .

( لكل مطرٍ نبات ) …
– في الربيع من الأفضل للإنسان أن يكون شجرة …
كان أبي يقولها و هو متجرّد من أغلب ملابسه تحت المطر …
كان يحثني على الفضيلة و كنا نسقي إحدى المزارع …
أوقف كل شيء، ثم أذن للصلاة …
كان صوته عذباً، خصوصاً عندما يتجه إلى الله …
رأيت كل شيء يصغي إليه …
النباتات ، الأشجار و الجبال …
حاولت اللحاق به كالعادة لأداء الصلاة …
لكنّه أبدى رغبة صادقة في أن يصلي وحده …
و حسبته عقاباً لي …
استتر بجدار و صلّى …
و صليت كما لم أصلْ أبداً من قبل .
               =============
       من رواية الحزام لأحمد أبو دهمان
       رواية الحزام تقع في 160 صفحة
       الناشر دار الساقي
       الطبعة الأولى 2001
    خاص بموقع إبحار بلا مركب
             إنتقاء : الفيصل. ع س