القصيبي شامخاً.

الشاعر هو المتمكن الوحيد الذي تلجأ إليه كي يخرجك من ضائقتك، طبعاً ليست ضائقة مال أو وجاهة موقع لأنه آخر من يهتم بذلك ولكنه يخرجك من ضائقة لا يستطيع أن يفك اعتصارها لك صاحب المال أو الوجاهة الاجتماعية.. إنه بحروف جميلة لها بريق سنوات المجد في عمرك أو عمر تاريخك يستخلصك من ذلك الاحتقان الذي يكتم الأنفاس ويعتم بالسواد كل انتشار للشمس حولك.. هنا قيمة الشاعر المتفرد بقدرة الإبداع.. ومثلما أنه في كل شيء هناك معدن أصيل حقيقي عدده قليل ومحدود بل ربما يأتي في أزمنة خاطفة وهناك ما هو عادي أو زائف يتوفر بأعداد كثيرة لكنها غير هامة.. قد يكون الشاعر أحياناً طفلاً يعبث ويلهو.. مراهقاً يحلم ويأمل وفي كلتا الحالتين لا يخضع للمعقول لكنه يتألق بجمال فوق نصاعة المعقول.. وقد يكون شيخاً تتوالى منه الحكمة التي يستفزها بين سطر وآخر بعنفوان فروسية الغضب.. إنه متى تكامل فهو كائن بالغ الروعة في جمال تكوينه.. إنسان متفرد يحمل في كف سلة فواكه متعددة المذاقات وفي كف أخرى سلة زهور متعددة الروائح.. هكذا كان عمر بن أبي ربيعة في زمن عشقه المبكر أو في مرحلة الجذور الأولى لميلاد شاعرية نزار قباني.. هذا "النزار" الذي يرضينا ويغضبنا بسهولة متناهية.. كان يجمع بين أرق الشعر وأكثره عذوبة في الحوار مع كل مساحة أنوثة في تكوين امرأة حين قال.. جسمك خارطتي ما عادت خارطة العالم تعنيني ويجمع في الوقت ذاته بين أكثر الكلمات صهيلاً وتوقداً حين يبحث عن "سيف" يؤجره ابن الوليد أو يسأل سلفه أبوتمام عن جدوى البقاء في مدن مهزومة.. لكم أخرجنا نزار قباني في حياته من ضائقات الهمِّ التي كانت تعصف بنا.. لكم شعرنا رغم اختلافنا معه في بعض مناحي اهتماماته بأنه شاهد عصر صلب وباق على مر الزمن في تعريته لعاهات عصرنا الوطنية.. في الأسبوع الماضي استدعى شاعرنا الكبير المعروف الدكتور غازي القصيبي نزاراً من غيبته البعيدة في قصيدة وجهها إليه رداً على سؤال ذهب ولم يستقص إجاباته.. إن القصيبي الغني بكفاءته الشخصية والمستقل تماماً في حضوره الشعري قد تعانق مع نزار في موقف تصوير أخاذ لمشاهد من عصر هزيمة موجعة.. يقول: "نزار أزف إليك الخبر.. لقد أعلنوها وفاة العرب.. وقد نشروا النعي فوق السطور وبين السطور وتحت السطور وعبر الصور وقد صدر النعي بعد اجتماع يضم القبائل.. جاءته حمير تحدو مضر وشارون يرقص بين التهاني تتابع من مدر أووبر وسامُ الصغير على ثوره عظيم الحبور شديد الطرب" وبعد استعراض ممتع يتواصل فيه الدكتور غازي القصيبي مع مشاهد الذل في كل ثنايا حياتنا اليومية وتتطاير أثناء ذلك أشلاء جسد طفل وبقايا وجه امرأة فيقول عن واقع غيرمبال بالفواجع "إذاعاتنا لاتزال تغني ونحن نهيم بصوت الوتر وتلفازنا مرتع الراقصات فكفل تثنى ونهد نفر وفي دزني لاند جموع الأعاريب تهزج مأخوذة باللعب ولندن مربط أفراسنا مزاد الجواري وسوق الذهب وفي الشانزلزيه سددنا المرور منعنا العبور وصحنا :"تعيش الوجوه الصِّباح"
                           
                                   التاريخ: 10/9/2001م

1 رد على “القصيبي شامخاً.”

لكتابة رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *